ينتسب المصريون الى مصرائيم بن كنعان بن
حام ساروا من العراق مهد بني نوح الى جنوبي جزيرة العرب ثم
قطعوا بحر القلزم واستوطنوا في افريقية من الصعيد الى
البحر المتوسط الانحاء المدعوة باسمهم مصرا ً.
وقد اثبتت الآثار الهير وغليفية المكتشفة في مصر ان ملوكهم
الفراعنة لما بلغوا ذروة عزهم تجاوزوا حدود بلادهم وساروا
الى بر الشام واستولوا دهرا ً طويلا ً على مدنها الساحلية.
وذلك منذ القرن السادس عشر قبل المسيح الى القرن العاشر.
وقد جاءت رسالات تل العمارنة المكتوبة في القرن الخامس عشر
قبل المسيح فاثبتت تلك الحقيقة باصدق برهان. وكان كتبة
الرسالات امراء فينيقيين يحكمون على مدن لبنان الساحلية
كعمال لملوك مصر فهم يفيدون سادتهم بهذه الرسالات عما يحدث
في جهاتهم من الحوادث ليكونوا على بصيرة من امرهم ويأخذوا
حذرهم من الاعداء الواقفين لأملاكهم بالمرصاد. ومن اعدائهم
المذكورين هناك الحثيون الذين مر الكلام عنهم.
ومما استفاد ملوك مصر من لبنان في زمن حكمهم على اهله
تجهيز سفنهم واساطيلهم كانوا يتقدمون بتعميرها في سواحل
لبنان لحذق اهله في هذه الصناعة ولقرب الغابات والخشب منهم
كما انهم استخدموا الفينيقيين لتدبير تلك المراكب ولحروبهم
البحرية.
اما اللبنانيون والفينيقيون فانهم اصابوا ايضا ً مسحة ً من
التمدن المصري وقد سبق لنا في تاريخ الآثار القديمة ما
وجدوا في حفريات سواحل الشام من النواويس المنحوتة على شكل
النواويس المصرية في صيداء وبيروت وجبيل. وكذلك وجدت في
صور وصيداء وعمريت تماثيل ودمى ومصاغات وحلي مصرية عليها
صور وكتابات مصرية.
الديانة المصرية - كان المصريون الاقدمون عريقين في
الدين كما يظهر من كل آثارهم لا سيما هياكلهم الفخيمة
ومدافنهم يقصدون بها العبادة للآلهة واعتقادهم بخلود
نفوسهم بعد الموت. وهذا ما دفعهم الى اقامة الاهرام
والمباني العظيمة التي صبرت حتى يومنا على كوارث الزمان
وتحتار لنظرها ألباب المعتبرين. وقد تركوا لنا آثارا ً
ناطقة عن ديانتهم طالما احتجبت عن العلماء الى ان توفق الى
حل اسرارها الفرنسوي شميوليون ألا وهي الكتابات
الهيروغليفية المعروفة عند العرب بالقلم المجهول المرقومة
على الابنية القديمة او على البابير اي البردي فان فحوى
معظمها مداره على دين المصريين تروي اساطير آلهتهم او
تسابيحهم وصلواتهم الدينية او تفصل تعاليمهم عن حياة
الآخرة.
ومما تقرر لدى المدققين من العلماء ان قدماء اهل النيل
عرفوا الها ً اعظم خالق جميع الكائنات فوصفوا كمالاته
العديدة واشاروا اليها برموز شتى استعاروها من عالم الكون.
ولأن الشمس في اعين البشر هي اعظم وأشرف هذه الكائنات
اتخذوها كصورة ذلك الاله الاعظم ونسبوا اليها تدبير العالم
فكأنها بسيرها في الفلك تمثل ملكا ً يجري في مركبته ليعاين
رعيته فينيرها ويحييها ويغذيها ثم يتوارى في الليل جاريا ً
على نهر سري الى عالم خفي هو عالم الارواح ليوزع على
الموتى النور والبهجة.
ولما نمت الدولة المصرية وانقسمت الى ممالك شتى في الصعيد
ومصر الوسطى ومصر السفلى ثم انشأت كل مملكة منها المدن
العامرة ومصرت الامصار جعل ملوك كل ناحية واهل كل مدينة
يعبدون ذلك الاله الاعظم على هيئة خاصة وينسبونه الى
ولايتهم او مدينتهم وتعددت بذلك اسماؤه مع وحدانيته فدعاه
اهل هيليويوليس اي مدينة عين شمس باسم أتوم وعبده أهل منف
باسم فتاح واهل هرمويوليس (الاشمونين) باسم طوت ومدينة
ثيبة (القصور) باسم عمون. ومدينة ادفو باسم هورس. واهل
أليفنتين (جزيرة اسوان) باسم ختوم. وكان يدعي عباد كل منهم
ان الهه هو الاله الاعظم.
على ان تعدد هذه الاسماء وتخصيصها بمدن ونواحي مختلفة لم
يلبث ان أولد في مخيلة عابديها خرافات شتى كانت داعية
لتعديد الآلهة وفصل قواتها بل صارت المدينة الواحدة تخص
الهها بجملة اشخاص من حاشيته وقرابته تنسب اليهم قسما ً من
لاهوته كزوجته وأولاده وانصاره يقابلهم اخصامم من آلهة
الظلمات والشرور. ثم اخذوا يرمزون الى هؤلاء الالهة
المتعددين برموز مختلفة منها من عالم الجماد والنيرات
كالقمر والسيارات والكواكب والانهار لا سيما نهر النيل.
ومنها من عالم النبات كالنيلوفر والاكاسيا وخصوصا ً من
الحيوانات. بعضها ضوار كالاسد والثعلب. وبعضها اهلية
كالكلب والقط والكبش والبقر لا سيما بقرة اييس الشهيرة
معبودة منف. وبعضها زحافات كالحيات والافاعي السامة.
وبعضها طيور كالصقر. وبعضها اسماك او حيوانات نهرية
كالورنك والتمساح. وبعضها حشرات كالجعل والخنفساء. وقد
اقاموا لكل هذه المعبودات هياكل فاخرة كان يتولى خدمتها
سدنة من الكهنة. وكانوا يغذون تلك الحيوانات واذا ماتت
حنطوها بكل حرص. واذا قتل رجل واحدا ً منها عمدا ً حكموا
عليه بالموت ولو كانت تلك الحيوانات مؤذية كالحيات
والتماسيح. وقد وجد في المدافن المصرية مئات والوف من هذه
الحيوانات محنطة ً. وفي كل متاحف اوربة ولا سيما في متحف
بولاق في القاهرة منها عدد وافر. وقد اشتهر في سكارا
بالقرب من القاهرة المدفن المسمى سيراييوم (Serapeum) دفنت
فيه عدة بقرات اييس.
ومن معبودات المصريين الذائعة الشهرة مجموع مركب من ثلثة
آلهة الاله اوزيريس والالهة ايزيس قرينته وابنهما الاله
هورس. كان اوزيريس ابن الاله الشمسي الاعظم أتوم راع وولي
عهده ملك مدة وعرف بحسن سياسته وعدله فحسده اخوه سيت وتمكن
من قتله. فسعت قرينته بجمع اعضائه المفرقة وتحنيطها. ثم
عاد الميت الى الحياة في الدنيا الآخرة حيث تعين كديان
الموتى. اما سيت الذي كان تولى الامر بعد قتل اخيه اوزيريس
فانه خلع من الملك وقتل بهمة هورس بن اوزيريس وايزيس وجلس
على تخت ابيه.
اما اعتقاد المصريين بالآخرة فهو مدون في كتاب شهير يدعى
كتاب الموتى كانوا يرقمونه بتمامه او ببعض اقسامه على
مدافن الموتى وعلى توابيتهم وعلى اللفائف التي يحنطونهم
بها. وهناك يرى الميت مصورا ً وهو منتصب امام اوزيريس
الديان المحاط باثنين واربعين قاضيا ً حوله ليؤدي الحساب
عن اعماله التي توزن في قسطاس بكل دقة فيثاب عنها بالخلود
والهناء الدائم او يعاقب بضروب العذابات.
ولنا في مدافن المصريين دليل آخر على معتقدهم بالآخرة
فانهم كانوا يحكمون صنعها ويحرصون على تحنيط الموتى ظنا ً
منهم ان الميت في عالمه الآخر يأوي الى صورته المحنطة
ويأنس بها. وما كانت الاهرام الا مدافن ملوكهم يعدها
الفراعنة لآخرتهم كقصور تسكن فيها نفوسهم بعد الموت بالرغد
والهناء.
هذه لمحة وجيزة في دين المصريين وفي كتب المستشرقين
ايضاحات تستغرق عدة مجلدات نحيل اليها القراء اذا ارادوا
التفصيل.
الفرس في لبنان ودينهم
الفرس عنصر آري ينتسبون كالاوربيين الى يافت بن نوح. سكنوا
بعد تفرق الامم أنجاد ايران العالية التي تفصل حوض دجلة
والفرات عن حوض نهر الهندوس وبقوا دهرا ً طويلا ً منفردين
مستقلين الى ان صمم ملوك الكلدان الاقدمين العزم على قهرهم
وادخالهم في طاعتهم فزحفوا الى بلادهم ولم يزالوا يتوغلون
فيها حتى بلغوا انحاء ماداي القاصية الى حدود بحر الخزر
فذللوهم وبسطوا عليهم سلطانهم.
وبقي الفرس والماديون صاغرين خاضعين دهرا ً طويلا ً حتى
شعروا بهرم الدولة البابلية في القرن السادس قبل المسيح
فانتهزوا الفرصة ونشروا راية العاصيان عليها. ولما ضبط
كورش عنان الملك في فارس سار الى بابل وحاصرها وتمكن من
فتحها عنوة ً وقتل ملكها بلشصر سنة 538 ق. م كما كان سبق
دانيال النبي واعلمه به لما عمد ذلك الملك الى آنية هيكل
الرب المنقولة من اورشليم وشرب منها هو ونساؤه فظهرت يد
سماوية كتبت على جدران مجلسه هذه الكلمات: "مني شقل فرس"
المشيرة الى انقراض دولته وموته. ثم استفحل امركورش ونوى
محاربة الدولة المصرية وقدم بجيوشه الى بلاد الشام فاذعنت
لملكه سورية ودخلت فينيقية تحت طاعته دون محاربة.
ثم مات كورش وخلفه ابنه كمبيس فاستعان بالفينيقيين لا سيما
اهل صور وصيداء وارواد وتقدم اليهم بان يعدوا له اسطولا ً
يمكنه من فتح مصر وجزائر بحر الشام واليونان فانجده
الفينيقيون بمئات من سفنهم ونالوا الحظوى في عينه وصاروا
مذ ذاك الحين انصار الفرس في غزواتهم وحروبهم الى ظهور
الاسكندر وسقوط الدولة الفارسية اي نحو مائتي سنة. وكثيرا
ً ما ادى الفينيقيون لملوك فارس الخدم الحسنة بسفنهم
فمكنوهم من الفوز باعدائهم. وقد اقر اولئك الملوك بفضلهم
واثابوهم على امانتهم بان اطلقوا لهم الحرية في توسيع نطاق
معاملاتهم وترويج تجاراتهم فبلغت سواحل لبنان في عهد الفرس
مبلغا ً عظيما ً في الترقي فصارت صور وصيداء وارواد اشبه
بممالك صغيرة. الا ان الدولة الفارسية في آخر عهدها تشددت
على اهل فينيقية واثقلت اعناقهم بالضرائب واساءت اليهم
المعاملة حتى عمدوا الى العصيان فحاربهم اوكوس ملك فارس
وبالغ في الانتقام منهم لا سيما من اهل صيداء الذين كانوا
ثاروا على مرزبانه فقتلوه. غير ان الدولة الفارسية لم تفتأ
بعد زمن قليل ان انقرضت بانتصار اليونان عليها.
الديانة الفارسية - ان اعتبرنا الآثار القديمة التي
اكتشفها المحدثون في حفريات بلاد فارس وعرضناها على نصوص
قدماء المؤرخين وجدنا ان الفرس عبدوا اولا ً قوى الطبيعة
البارزة لابصارهم في بعض الكائنات الممتازة بعظمتها او
بشدة عملها. قال هيرودوتس المؤرخ: " ليس من عادة الفرس ان
ينصبوا تماثيل للالهة او يشيدوا لهم هياكل ومذابح بل كانوا
يحسبون من يفعل ذلك احمق والظاهر انهم لا يعتقدون اعتقاد
اليونان بان الاله على شبه الانسان. وقد اعتادوا تقريب
القرابين لجوييتر فوق قمم الجبال الشامخة ويسمون كل دائرة
السماء باسمه ويضحون للشمس والقمر والنار والهواء والماء
دون سواها. ثم مالوا الى عبادة الزهرة السماوية اخذوا ذلك
عن الاشوريين... والفرس يدعونها ميترا".
تلك كانت ديانة الفرس الاولين الا ان المجوس وهم ارباب
دينهم قسموا الكائنات الى قسمين طاهرة فنجسة اعتبروهما
كعنصرين متناقضين او مبدأين صالح فطالح في نزاع متواصل.
فتلك هي الديانة الثانوية التي اعلن بها المجوس وفي
مقدمتهم زرادشت الذي ينسب اليه ذلك المذهب وهو واضع كتاب
الأوستا المشتمل على اصول الديانة الثانوية ثم وضع خلفاؤه
شرحا ً عليه سموه "زنده" فعرف كلاهما باسم "زنده اوستا"
ومعنى الكلمة "الشريعة والسنة" ومن زنده اشتق العرب كلمة
زنديق لما اعتقدوه في المجوس من الزندقة والكفر.
ومرجع ديانة الثانويين الى ان للعالم الهين اله الخير واله
الشر. فيدعون اله الخير هرمزد هو الاله الاعظم خالق
الكائنات واصل كل خير يدعونه ايضا ً اله النور. ويدعون اله
الشر اهريمان وهو اله الظلمة وينبوع كل شر ورئيس اركان
الجحيم. ويسمون ايضا ً الاله الصالح "مزدق" من حيث هو اله
الارواح بخلاف اهريمان الذي هو مكون المادة. وبين الاله
الصالح والبشر وسيط هو ميترا اله الشمس وكان الفرس يسجدون
له في صورة الشمس كما انهم كانوا يعظمون النار ويوقدونها
في هياكلهم ويزعمون أنها ممثلة لالهم وكانت غاية ديانتهم
ان يطهروا اصحابهم من دنس السفليات ووضر الجسد ويلحقوا بهم
الى عالم العلويات حيث يحل فيهم لاهوت الاله الاعظم. وقد
بقي الى يومنا في الهند وبعض جهات بحر الخزر تبعة للديانة
الثانوية يعرفون باليارسي (اي الفرس القدماء).
ومع ان الفرس ملكوا على لبنان وفينيقية نحو مائتي سنة فليس
من اثر يشهد على انتشار هذا الدين فيهما في تلك الحقبة.
اليونان في لبنان وديانتهم
اصل اليونان كالفرس من عنصر آري انتقلوا في الالف الثالث
قبل المسيح من شرقي العراق الى آسية الصغرى ثم عبر قسم
منهم البحر الى الجزائر المدعوة باسمهم. وفيها تناسلوا
وتقسموا الى قبائل شتى ثم الى امم مستقلة لكل منها اخبار
وحروب ورد ذكرها في تواريخهم وقصائد شعرائهم. فلما توسط
القرن الرابع قبل المسيح استفحل امر المقدونيين وصارت
السيطرة لملوكهم ولا سيما لفيلبوس الملك ثم لابنه الاسكندر
المعروف بذي القرنين. فان فيليبوس استولى على الدول
اليونانية المتفرقة فخلفه الاسكندر واتم عمله ثم تخطى الى
الاقطار المجاورة فتصدى له داريوس ملك فارس بجيوشه الا ان
الاسكندر اسرع الى مناجزته وكسره كسرة قبيحة في سهول
قيليقية فاستولى على دمشق وسار الى محاصرة صور التي ابت
الخضوع لدولته فلم يزل يضايقها حتى فتحها عنوة ً بعد اربعة
اشهر في اواسط السنة 332. واذ بلغ الاسكندر ان فرقة من
اللبنانيين اغتالوا قوما ً من اصحابه سار بنفسه الى لبنان
مع قسم من جيشه فلم يلق في وجهه عدوا ً فقطع الجبل الشرقي
ثم عاد بعد عشرة ايام غانما ً ظافرا ً فأتم فتوحاته
العجيبة حتى صارت الارض باسرها في حوزته الى فارس وحدود
الهند. ولما عاجله الموت في بابل بعد عشر سنوات فصرعه فيها
تقسم قواده ممالكه فصارت سورية حصة سلوقوس نيقاطور وسلالته
السلوقيين الذين ملكوا عليها الى اواسط القرن الاول قبل
الميلاد.
ديانة اليونان - طبع اليونان على حب الجمال فلما
عاينوا مشاهد الطبيعة الجميلة في اوطانهم وجدوا في
المواليد الطبيعية الثلثة ما فتنت به ألبابهم وسحرت عقولهم
فاستفادوا من ورائها قوة الهية لم يفرزوها عن تلك الكائنات
فاستسلموا الى الشرك.
وقد جاءت الاكتشافات الحديثة في اقريطش وبعض جهات اليونان
فبينت خواص دين اليونان القديم فمنها يؤخذ ان اول ما
باشروا بعبادته الجماد وذلك انهم عمدوا الى الانصاب الضخمة
التي كانوا ينحتونها على هيئات معلومة يرون فيها صورة
المعبودات العلوية فيقربون لها القرابين ليستعطفوها. ومن
معبوداتهم الجمادية الرجوم والنيازك وبعض الحجارة السوداء
البركانية كانوا ينصبونها في هياكلهم للعبادة اذ تخيلوها
اجساما ً روحانية هابطة من السماء تأوي اليها الآلهة.
وكذلك المواليد النباتية خصوها بعبادتهم لما اوجدوا فيها
من قوة النمو والتناسل فنسبوا ذلك الى الآلهة الساكنة فيها.
وقد خصوا كل شجرة باحد الآلهة فكان السنديان يعتبر كشجرة
زفس اي المشتري والزيتونة كشجرة الالهة مينرفة او اثينا.
والغار كشجرة الاله ابولون وهلم جرا ً.
ومثلها المواليد الحيوانية فان اليونان الاولين دانوا لها
لزعمهم ان شيئا ً من الذات الالهية حال فيها فاكرموها
اكرامهم للالهة فكانت الحية مثلا ً تكرم في هيكل مدينة
اثينة المقام على مشرف البلد المسمى اكرويول فكانوا كل شهر
يقدمون لها فطائر مع العسل. وكانت الحية تكرم ايضا ً في
هياكل اله الطب اسكولاب وفي هيكل ألوسيس حيث كانوا يقيمون
حفلات سرية لمن يدخل في سلك المتعبدين للاله ديمتر. وكان
الملاحون يكرمون الدلفين ممثل اله البحر يوسيدون. ومثلها
الطيور فكان العقاب طائر المشتري والحمامة طائر افروديت اي
الزهرة والبوم طائر اثينا او مينرفة.
ومن مناسكهم الدينية عبادتهم لبعض مشاهير الموتى كانوا
يكرمونهم بالتقادم من آنية واسلحة ومآكل. وكانوا يقيمون
بجوار قبورهم المذابح لتقدمة الذبائح الدموية من بهائم
وطيور حتى الضحايا البشرية التي لم يستنكفوا من تضحيتها في
بعض الاحيان كما شهد على ذلك المؤرخون اليونان انفسهم.
والظاهر ان اكرامهم للموتى ادى بهم بعد ردح من الدهر الى
نظمهم في سلك الآلهة فتخيلوا آلهتهم على شبه البشر جعلوا
لكل منهم سلسلة نسب فعددوا اجدادهم ثم نسلهم ووصفوهم
باوصاف متباينة منها حسنة ومنها سيئة بل اعاروهم كل ما
وجدوا في الانسان من الاهواء والشهوات حتى ادناها واقبحها.
ومن تصفح اقدم كتب اليونان كالالياذة واسفار عوليس
لهوميروس اخذه العجب مما اخترعه اليونان من الاساطير
والخرافات في تاريخهم الديني وعنهم يصح قول احد كبار
الخطباء انهم في تعدادهم للالهة لم ينسوا الا الاله
الحقيقي. وفي خطاب القديس بولس الرسول أمام مجمع اريوس
باغوس في اثينا ما يصرح بهذا الغلو في اكرام المعبودات
المختلفة حتى المجهولة منهم (اعمال الرسل 17: 21- 25). وقد
بلغ عدد الذين اعتبروهم كآلهة الالوف المؤلفة من جملتهم
العناصر الطبيعية كالارض والهواء والسماء والبحر والجبال
بل اعتدوا كآلهة ما ندعوه باسماء معان كالموت والنوم
والاحلام والزمان والفضاء وعينوا آلهة ً لكل الاحوال
البشرية من مولد الانسان الى موته ولم يدعوا صنعة ً الا
جعلوا لها الها ً كان اصحابها يقيمون له موسما ً لا كرامه.
ومن غريب امور اليونان انهم لما فتحوا البلاد في ايام
الاسكندر وامتزجوا بالشعوب الاجنبية اضافوا الى دينهم
معبودات اولئك الشعوب فاخذوا عن الفينيقيين عبادة البعل
وعشترت وعن المصريين عبادة ايزيس واوزيريس وعن الاشوريين
عبادة بيل. وكانوا اذا حاول احد عقلائهم ان يردعهم عن هذه
الخرافات تحاملوا عليه وحكموا عليه بالموت كعدو الآلهة
وملحد. وهكذا فعلوا بسقراط الفيلسوف اذ سقوه السم بعد
حكمهم عليه بالزندقة.
وكما ان اليونان استعاروا كثيرا ً من الخرافات الدينية
الشائعة بين الشعوب المجاورة لهم كذلك ينبغي القول بأنهم
اشاعوا بين الأمم التي امتزجوا بها جملة ً من اباطيلهم
الدينية. وفي تاريخ فينيقية ولبنان ما يثبت ذلك كما تشهد
عليه الآثار المكتشفة هناك التي مر لنا وصفها في مقالة
سابقة.
والديانة اليونانية هذه صبرت عهدا ً طويلا ً على حوادث
الزمان الى ان ظفرت بها الديانة النصرانية ومحت آثارها
بقوة براهينها وانتشار عقائدها في انحاء المعمور.
الايطوريون في لبنان وديانتهم
الايطوريون جيل من العرب يرقى نسبهم الى اسماعيل بن
ابراهيم الخليل الذي يذكر سفر التكوين (25: 15) بين ابنائه
المدعو ايطور. سكن الايطوريون في شمالي شرقي فلسطين في
جبال تعرف اليوم بجبال اللجا قريبا ً من تخوم الشام. ثم
امتدوا الى الجبل الشرقي وانحاء البقاع فجعلوا هناك مدينة
كلسيس وهي عنجر عاصمة ملكهم. وقد ورد ذكر هؤلاء الايطوريين
غير مرة في تاريخ اليونان والرومان. والكتبة يطنبون في
بأسهم وحذقهم برمي السهام.
وكان للايطوريين ملوك يسوسونهم فلما رأوا ما صارت اليه
دولة السلوقيين من الضعف في اواخر القرن الثاني قبل المسيح
تقدموا الى سواحل بحر الشام وتوغلوا في لبنان من جهته
الشمالية فاستولوا على رأس الشقعة وانحاء جبيل وتحصنوا
فيها. ولما سار الرومان تحت قيادة يومييوس الى سورية
وجدوهم هناك فلم يروا بدا ً من محاربتهم وكان ملكهم اذ ذاك
يدعى ديونيسيوس (وهو اسم الاله نجوس باليونانية) وكان تحت
امره نحو ثمانية آلاف فارس فانتشبت الحرب بينهما فكانت
الدولة على الايطوريين فردهم الرومان الى مواطنهم ثم حولوا
بلادهم الى اقليم روماني ألحقوه بسورية. وقد اخبر لوقا
الانجيلي ان ايطورية كانت ربعا ً يتولى عليه فيلبوس بن
هيرودس الكبير في السنة الاولى من كرازة السيد المسيح.
ومما يعرف عن الايطوريين مدة حكمهم على لبنان انهم كانوا
اتخذوا فيه الحصون المنيعة كسنان وجيغرتا وبوروما وكانوا
وراء اسوارها اعز من العقاب يهجمون منها على النواحي
المجاورة مندفعين كالسيل الجحاف لا يقوى احد على كسر
شوكتهم فينهبون ويسلبون ويعودون الى اوكارهم ظافرين غانمين.
اما "ديانتهم" فلم يذكر الكتبة عنها شيئا ً ولا شك انها
كانت كديانة النبطيين جيرانهم يعبدون الشمس والكواكب ولا
سيما الزهرة وذا شرى (Dusares) الذي يعتبره المؤرخون
كديونيسيوس او بخوس. وكثيرا ً ما ورد ذكره في الكتابات
النبطية في حوران واللجأ.
الرومان في لبنان وديانتهم
كان دخول الرومان في لبنان في القسم الثاني من القرن الاول
السابق للمسيح على عهد يومييوس القائد الروماني بعد حربه
لميتريدات ملك يونتوس وفتحه ارمينية فانه سار الى سورية
فنهبها من ايدي انطيوخوس المعروف بالاسيوي سنة 64 ق.م. ثم
اعلن الحرب على الايطوريين المتحصنين في شمالي لبنان
فكسرهم واخرج الجبل من حكمهم والحقه بالاملاك الرومانية
كما استولى على كل مدن فينيقية الساحلية دون معارض وبقي
حكم الرومان على بلاد الشام وعلى لبنان الى ان خلفهم
عليهما ملوك بوزنطية الروم.
عنصر الرومان ودينهم - الرومان من العنصر اللاتيني
الايطالي وفرع من الشعوب الهندوجرمانية الراقية بالنسب الى
يافت بن نوح. كانوا في اول امرهم قبائل بادية ترعى المواشي
ثم عمدوا الى الحضارة فاخذوا يحرثون الاراضي ويبنون القرى
الى ان تحرى زعيمهم رومولوس تشييد مدينة دعاها باسمه رومية.
وقد تبعت ديانتهم تقلبات احوالهم من البداوة الى الحضارة
فكانوا اولا ً يجلون قوى الطبيعة ومآثرها المحسوسة فباشروا
باكرام الافلاك والعناصر كالشمس والارض والنبات والينابيع
ثم اكرموا بعض الحيوانات والاشجار العادية والحجارة. وما
كانوا كاليونان ليبالوا بمحاسن الطبيعة او يكترثوا
بتمثيلها على صورة بهية وانما عبدوها كما وجدوها في عالم
الكون او توهموها في مخيلتهم الفطرية دون ان يجسموها في
صورة محسوسة.
ثم رسخت بعد ذلك قدم الرومان وعظمت سلطتهم فأعاروا آلهتهم
خواص موافقة لعظمة عبادها فجعلوا كبير آلهتهم اله العنصر
الهندوجرماني والسلالة اللاطينية جوييتر اله السماء وعددوا
اسماءه فعبدوه تحت اسم اله البرق واله الرعد واله النور ثم
اقاموا له هياكل كان اعظمها هيكل الكاييتول في رومية فدعوه
بالاله الأجود الاعظم (Jupiter Optimus Maximus) وصنعوا له
تماثيل كانت بادىء بدء خشيبة غليظة على مثال جيرانهم
الاتروسكيين ثم اتقنوا صنعها لما تحسن ذوقهم بتأثير
الصناعة اليونانية فيهم.
وزعموا ان لجوييتر عرسا ً هي الالهة جونون الملكة فعددوا
لها صفات شتى كما لزوجها. وقرنوا بهما الها ً ثالثا ً
كانوا يدعونه كويرينوس لكنهم ابدلوا بعد ذلك كويرينوس
بالاله مرت وهو المريخ اله الحرب كانوا يكرمونه بذبائح
دموية فيضحون له الخنزير والكبش والثور بل ضحوا له الضحايا
البشرية لا سيما اسرى الحرب.
وكان للرومان آلهة اهلية خصوها بحراسة البيت واهله وكل
اطوار حياة الانسان من مولده الى موته. منهم الاله جانوس
حارس الابواب والالهة قستا حارسة نار البيت. ثم اتخذتهما
الدولة فاكرمتهما اكراما ً رسميا ً فجعلت الاول حارسا ً
لابواب الهياكل يعنى بداخليها والخارجين منها. واتخذوا
الثانية كحارسة النار العمومية واوقدوا في هيكلها نارا ً
وضعوها تحت نظر عذارى يحفظنها موقدةً ابدا ً فاذا انطفأت
عاقبوهن بالموت ووأدوهن حيات.
ثم تعززت الدولة الرومانية وبسطت حكمها على انحاء المعمور
فسمحت للخاضعين لامرها بحفظ اديانهم. فما كان بعد قليل الا
ان اختلطت تلك الاديان بالدين الروماني لا سيما دين
اليونان والاديان الاسيوية الغربية كدين ميثرا الفارسي
ودين قيبال الفريجي ودين الزهرة او عشترت السوري.
ولما صارت دولة رومية في عهدة الامبراطرة بلغ بهم اكرامهم
لملوكهم او بالحري تذللهم لهم ان ادرجوا اسماءهم في عداد
الآلهة فشرعوا يقيمون لهم الهياكل وهم احياء جعلوا عليها
سدنة ً لخدمتها حتى اذا مات القيصر احتفلوا بتأليهه وان
كان من اشرار الناس والأثمة الكبار كنيرون ودومطيانوس
وكركلا.
اما نفوذ الديانة الرومانية في لبنان فكان في الغالب سطحيا
ً لم يؤثر في قلب الوطنيين مع ما شيده الرومان من المعابد
الفخيمة كمعبد بعلبك ومعبد دير القلعة. فكانت معبودات تلك
الهياكل مشتركة بين ارباب الدولة والوطنيين فيعتبرها
الروماني كهياكل آلهته ومثله الوطني يراها مقامة ً لاجلال
معبوداته وكان كل من الفريقين يدعوها كما يشاء وتحت الاسم
الذي يشاء فيدعو الروماني مثلا ً جوييتر ما يدعوه الفينيقي
بعلا ً ويكرم الروماني جونون في تمثال يعده الوطني كتمثال
عشتروت. وقد اثبتت الكتابات القديمة اختلاط الديانتين مع
اختلافهما في اعين كل من الفريقين. ثم انتقض حبل كلتا
الديانتين بتنصر قسطنطين الملك حتى طمست آثارهما بعد موت
جوليان الجاحد وفوز ثاودوسيوس الكبير.