العناصر اللبنانية ومذاهبها الدينية (لبنان
مباحث علمية و اجتماعية - كتاب نشرته لجنة من الأدباء بهمة
اسماعيل حقي بك متصرف جبل لبنان - سنة 1918)
ليس بين البلاد قطر امتزجت فيه عناصر الامم كسورية وذلك
لموقع هذا الصقع وفي وسط الاقطار التي قامت فيها الدول
العظمى الفاتحة كدولة الكلدان والاشوريين والفرس شرقا ً
ودولة الحثيين واليونان والرومان والترك شمالا ً ودولة
المصريين والعرب جنوبا ً.
فكل هذه الدول اذ رأت سورية في طريقها لما حاول ملوكها
توسيع نطاق املاكهم او ساروا لمحاربة اعدائهم لم تر بدا ً
من بسط سلطتها على القطر الشامي خوفا ً من ان يكون عثرة ً
في سبيلها ورجاء ان تستمد من مرافقه اسباب ثروتها. فصار
تحت حوزة تلك الامم التي اخذت على عاتقها تدبيره بولاتها
وعمالها فكان ذلك اكبر داع لامتزاج العناصر في حدوده. ولم
يخرج لبنان جبله وساحله عن هذا الحكم كما سترى. ولأن تلك
الامم الفاتحة لسورية ولبنان كانت ممتازة ً بمذاهبها
واديانها نتج ايضا ً من ذلك ان المذاهب في سورية ولبنان
تعددت فاصبحت فيهما اوفر منها في سواها من البلاد فأخذ
كلاهما شيئا ً من اساطير ومزاعم كل نحلة منها.
وليست غايتنا هنا ان نشمل في بحثنا هذا سائر انحاء سورية
بل نحصر كلامنا في فينيقية ولبنان فنستقري تلك الشعوب على
حسب تاريخ ورودها الى سواحل البحر المتوسط مباشرة ً
بالشعوب التي حلت فيها بعد الطوفان. اما قبل هذا العهد
فليس لدينا في شأنه معلومات تفيدنا عمن عاش فيه من الامم
ولا عن اجناسهم او مذاهبهم.
الكنعانيون
ان بني كنعان بن حام بن نوح اول من سكن بعد الطوفان سواحل
البحر المتوسط ونواحي لبنان. كانت قبائل الحاميين تقطن
اولا ً في جهات العراق قريبا ً من بحر العجم وارض بابل مع
انسبائهم من بني سام ويافث ثم تناسل البشر هناك وتزاحموا
فانقسم بنو حام الى قسمين قسم منهم سار الى الجنوب كبني
مصرائيم وبني كوش فاستوطنوا جزيرة العرب ثم قطعوا بحر
القلزم فانتشروا في شمالي افريقية في مصر والحبشة والبلاد
المجاورة. والقسم الآخر وهم بنو كنعان قصدوا جهات الغرب
حتى بلغوا سواحل البحر المتوسط فاحتلوها من ارواد الى حدود
فلسطين. ولنا في ذلك اقدم شاهد ورد في سفر التكوين لموسى
النبي حيث قال في الفصل العاشر: "ولد كنعان صيدون بكره
وحثا ً واليبوسيين والاموريين والجرجاشيين والحويين
والعرقيين والسينيين والارواديين والصماريين والحماتيين
وبعد ذلك تفرقت عشائر الكنعانيين وكانت تخوم الكنعانيين من
صيدون وانت آت نحو جرار الى غزة. وانت آت نحو سدوم وعمورة
وأدمة وصبوئيم الى لاشع".
فيظهر من هذه الآيات جليا ً ان بني كنعان سكنوا فينيقية
باجمعها ليس جنوبها فقط كبني صيدون واليبوسيين والحويين بل
شمالها ايضا ً لذكره العرقيين والارواديين نسبة ً الى عرقة
وارواد الواقعتين في شمالي فينيقية. اما لبنان فان تلك
القبائل لم تستحب السكنى فيه اللهم الا في مواقعه السفلى
القريبة من البحر دون مشارفه التي كانت حين ذاك غابات
كثيفة تمرح في وسطها الاسود والنمورة وغيرها من ضواري
الحيوان فلم يقو البشر على مزاحمتها فيها الا بعد مدة
طويلة بعد الطور الحديدي الذي مكن الانسان من اصطياد
السباع الكاسرة بالاسلحة الحديدية.
وكانت لغة بني كنعان لغة ً سامية متفرعة من لغة قدماء
الكلدانيين قريبة ً من اللغة العبرانية وهي المعروفة
باللغة الفينيقية. وقد وجد منها العلماء في هذه الاحقاب
الاخيرة كتابات حجرية شتى سعوا بنشرها وشرحها. وبقي العنصر
الكنعاني متغلبا ً على فينيقية وحدود فلسطين مع ما جرى
هناك من التقلبات السياسية وقدوم طبقات جديدة من الشعوب
اليها. بل نرى آثار الكنعانيين باقية ً الى زمن السيد
المسيح. وقد روى الانجيل الطاهر خبر ابراء المسيح لابنة
امرأة كنعانية في تخوم صور وصيداء. وفيه دليل الى ثبوت
العنصر الكنعاني الى ذلك الوقت.
ديانة الكنعانيين - لا يزال دين الكنعانيين في
فينيقية ولبنان محجوبا ً نوعا ً عن نظر العلماء الى عهدنا
بيد أن الاكتشافات الحديثة في الاحقاب الاخيرة اماطت شيئا
ً من ذلك الستر الكثيف فامكنهم ان يستشفوا من ورائه اخص
معتقداتهم الدينية.
كان التوحيد اصل الدين الفينيقي فعرفوا بادىء بدء الاله
الحقيقي كما دلهم اليه الوحي السابق مع عقلهم الصائب. وقد
دعوا الاله الاعظم معبودهم باسماء حسنى وجدوها في كتاباتهم
القديمة تشير الى حسن معتقدهم فدعوه باسم البعل معناه الرب
والسيد وهو الاسم الشائع عندهم. وسموه باسم أدون ومعناه
السيد أيضا ً. كما انهم لقبوه بملوك او ملوخ اي الملك او
ببعل شمائيم اي رب السماء كما ورد في كتابة ام العواميد
الشهيرة. ولا جناح كما ترى في اطلاق هذه الاسماء على الاله
الاعظم عز وجل. لولا ان الفينيقيين بعد حين كد روا ذلك
المعين الصافي وجسموا تلك الروح الالهية المنزهة عن كدورة
المادة واعاروها خواص الاجسام الحية ثم صوروها بتصاوير
خيالية كما تمثلتها اوهامهم.
ثم تعددت بعد ذلك قبائل الكنعانيين وامتدت في انحاء سورية
وفلسطين فشيدوا لهم المدن العامرة ومصروا الامصار واستقلت
مدينة عن اخرى بالحكم فصارت كل مدينة تختص البعل بخدمتها
وتنسبه الى مقامها وتفرزه عن سواها فكان الصوريون يعبدون
بعل صور ويدعونه ايضا ً ملكرت اي ملك البلدة. وكان اله
الصيدونيين بعل صيدون واله البيروتيين بعل بريت. وقس عليه
بقية المدن.
ثم نسبوا البعول الى غير المدن فنسبوا بعضها الى النار
فدعوا بعل حمون وبعضها الى القصف كبعل مرقد الذي كان يكرم
في هيكل دير القلعة والى النخلة كبعل تمر. وانتقلوا بذلك
الى عيادة الطبيعة فألهوا قواتها ومظاهرها ومواليدها
المختلفة لا سيما التي كانوا يجدون فيها شيئا ً من الغرابة
كالحجارة البركانية والنيازك. بل اتخذوا الجبال كمعبوداتهم
فعبدوا بعل لبنان وبعل حرمون ووجه الاله (رأس الشقعة)
ويسمى ايضا ً وجه الحجر يرون في كل هذه الجبال صورة للعظمة
الالهية فيؤدون لها الاكرام الواجب لعزته تعالى فقط.
ثم أدى بهم التهوس الديني الى ان جعلوا لهؤلاء الآلهة
زوجات كن ثنيانهم اخصهن عشترت التي عمت عبادتها سواحل
فينيقية ومعاطف لبنان وكانوا يدعونها بالبعلة فيجعلونها
زوجة البعل وقد نسبوها ايضاً كالبعل الى بعض المدن. وقد
اشتهرت خصوصا ً بعلة جبل اي جبيل فاقام لها الجبليون هيكلا
ً عظيما ً في مدينتهم كان اهل فينيقية يحجون اليه وقد
رسموا صورته على نقودهم كما تراها في رسومنا مع صورة
الالهة عشترت المزدان رأسها بالهلال. ومما يدل على قدم
عبادة عشترت في لبنان أن اسمها ورد في مكاتبات تل العمارنة
التي يرقى تاريخها الى القرن الخامس عشر قبل المسيح وكذلك
صرحت كتب العهد العتيق باسمها واسم البعل وعبادتهما في
الشام وفلسطين.
وقد بكت الله شعبه اسرائيل مرارا ً وضربهم الضربات الشديدة
لسجودهم لهما كما ورد في سفر القضاة وسفر الملوك الأول.
ومما ثبت اليوم بابحاث المستشرقين وحفريات ارباب العاديات
ان الفينيقيين باسفارهم البحرية ورحلهم الى البلاد السحيقة
واحتلالهم مستعمرات عديدة في آسية واوروبا وافريقيا نشروا
عبادتهم للبعل ولعشترت حيثما حلوا وكانوا يبيعون لاهل
البلاد تماثيل آلهتهم التي وجد منها عدد وافر في انحاء
مختلفة.
وان سألت ماذا يعرف من مناسك الفينيقيين وعاداتهم الدينية
أجبنا ان دينهم الباطل والخرافات التي تشبثوا بها حملتهم
الى اقامة مواسم شتى عمدوا فيها الى رتب غريبة جمعوا فيها
بين الفظاظة الهمجية وضروب الفجور زاعمين والعياذ بالله
انهم يتقربون بذلك الى آلهتهم ويردون عنهم غضبها.
ومن اعمالهم الهمجية الدالة على شراسة اخلاقهم وسوء تعبدهم
ان كهنة البعل وعشترت كانوا في بعض فصول السنة يتزيون
بازياء النساء متخنثين ويطلون وجوههم بالمغرة ويكشفون عن
سواعدهم ويسيرون في الشوارع زرافات شاهرين السيوف والفؤوس.
وكان بعضهم يدق آلات الطرب وبعضهم ينفخ بالابواق والزمارات
ثم يصيحون ويولولون ويحركون اجسامهم حركات غريبة فيرقصون
مرة ويقفزون اخرى وحينا ً يحنون صدورهم الى الحضيض وتارة
يتمرغون في التراب حتى يصيبهم نوع من الجنون فيعمدون الى
المدى والشفرات والحراب والسيوف فيخدشون وجوههم ويشرحون
لحمانهم ويغرسون الحراب في بطونهم فتسيل دماؤهم وتصطبغ بها
ابدانهم وهم يرون بذلك التقرب من آلهتهم واستلطافهم. ولنا
في قدم هذه المواقف الفظيعة نص ثابت في سفر الملوك الثالث
(ف 18) في خبر المحرقة التي عرض ايليا النبي اصعادها دون
نار دلالة على صحة دينه وسوء دين كهنة البعل الذين اجتمعوا
بعدد 450 وجعلوا على المذبح ثورا ً يريدون تقريبه. قال
الكتاب: "ودعوا باسم البعل من الغداة الى الظهر وهم يقولون:
ايها البعل أجبنا... وكانوا يصرخون بصوت عظيم ويرقصون حول
المذبح وتخدشوا على حسب رسمهم بالسيوف والحراب حتى سالت
دماؤهم عليهم" ثم يذكر الكاتب فشلهم ونجاح ايليا في محرقته
وقتله للانبياء الكذبة.
وكان لاهل جبيل موسم يقيمونه في بدء الربيع لالههم ادونيس
المعروف ايضا ً بتموز وكان لهذا العيد شهرة عظيمة يتقاطر
اليه الزوار من كل أوب. فاذا حان يومه رأيت القوم في هياط
ومياط استفزتهم الحمية الدينية فيجتمعون ليحتفلوا بموت
الههم فكان يتقدم الموكب جماهير من الفتية والفتيات وهم
يولولون ويعولون كأنهم فقدوا اعز الاحباب. تليهم عذارى
يحملن على رؤوسهن اطيافا ً ومقاطف فيها اجناس الزهور
والاثمار وضروب الطيوب والعطور التي تزان بها جثت الموتى.
ثم تسير خلفهن نساء لابسات الحداد عليهن السرابيل الضافية
الذيل لا نطاق لهن يظهرن من الالم اشده وهن سادلات شعورهن
يقرعن صدورهن ويخدشن وجوههن ويعولن على ايقاع الجنك. وكان
يحمل في اثرهن تمثال الاله تموز تحمله الكهنة على المناكب
فيرى صريعا ً على نعشه والدم يقطر من جنبه كما تصوروه يوم
قتله وحش ضار في مشارف لبنان وكان الحضور اذا رأوه على هذه
الصورة علا ضجيجهم واجهشوا بالبكاء والعويل ثم يسيرون
بجلبة عظيمة الى نهر ادونيس (نهر ابراهيم الحالي) وهم
يزعمون ان احمرار مياهه في ذلك الفصل من اصطباغه بدم الاله
فيغمسون التمثال في النهر ظنا ً منهم انه يحيا بمسيس مياهه
ثم يعودون الى المدينة وقد تحولت اتراحهم الى افراح
يتهللون بالاناشيد المطربة اشارة ً الى قيامة ادونيس من
الموت فيقفزون فرحا ً ويرقصون الرقص الخلاعي ويستسلمون
للملاهي الرجسة.
واما خلاعتهم فكانوا يسترونها تحت حجاب الدين فيعدون اعمال
العهارة والفجور كأفعال تقوية ترضى بها الآلهة. ولم يستنكف
كهنتهم عن المجاهرة بالارجاس بل جعلوا هياكلهم كماخورات
يعرضون فيها نساء يدعونهن قدسات لضروب السيئات!!
واقبح من ذلك قرابين بشرية كانوا يضحونها لتلك الطواغيت من
اسرى حرب وعذارى ولا سيما الاطفال كانوا يجعلونهم على
ذراعي الصنم الممدودتين ثم يوقدون تحته نارا ً فيحترقون
بينما كان الكهنة يضجون ويصخبون ويدقون الطبول والصنوج
لئلا تسمع اصوات وعويل الضحايا.
وقد اصبحت هذه الديانة الباطلة عثرة ً في سبيل شعب الله
بني اسرائيل وقد تكرر في اسفار التوراة سيرهم على سننها
الفاحشة فسجدوا لآلهتها وضحوا اولادهم لاكرامها كما ورد في
المزامير (105: 35- 39) حيث قال عن بني اسرائيل: "اختلطوا
بالأمم وتعلموا اعمالهم وعبدوا اصنامهم فكان لهم ذلك وهقا
ً وذبحوا بينهم وبناتهم للشياطين وسفكوا الدم الذكي دم
بنيهم وبناتهم الذين ذبحوهم لاصنام كنعان فتدنست الارض
بالدماء". وذكر النبي حزقيال (14:8) اجتماع نسائهم ليبكين
على تموز فونبهم الله على كل هذه الارجاس بلسان انبيائه
الكرام وعاقبهم العقوبات الاليمة حتى انابوا اليه وارعووا
تائبين.
وبقيت الديانة الفينيقية الى ايام تملك اليونان والرومان
على لبنان وسواحل الشام دان بها كثيرون منهم بعد ان مثلوها
على صورة موافقة لمذاهبهم فاعتبروا البعل كزفس او جوييتر
وأنزلوا عشترت بمنزلة فينوس وهلم جرا ً.
وقد تحقق العلماء المحدثون في ابحاثهم عن آثار الدين
الفينيقي ان الفينيقيين جمعوا بين آلهة مختلفين فعبدوا في
كل مدينة مجموعا ً خاصا ً. فعبد اهل صور البعل وملكرت
وعشترت واكرم اهل صيدون البعل واشمون وعشترت. وكان
البيروتيون يدينون في هيكل دير القلعة لبعل مرقد ولعشترت
ولعطارد. وهذا المجموع هو المجموع البعلبكي المعبود تحت
اسماء جوييتر وجونون ومركور. كما ظهر من عدة كتابات شرحها
الابوان سبستيان رنزقال ولويس جلابرت في مجلة المشرق (10
سنة 1907 ص 158- 162).
وكان تحت حكم هذه المثلثات الاصلية آلهة اخرى ثانوية
كالاله سلمان والاله بيس منها ذكور ومنها اناث. وعدد ما
يعرف منها يزداد سنة ً بعد سنة بمساعي الاثريين واكتشاف
الكتابات القديمة.
وقد اتسعنا في وصف الدين الفينيقي لعظم شأنه في لبنان
وسواحل بحر الشام وطول ثباته فيها مدة الوف من السنين حتى
غلبه آخرا ً الدين النصراني في القرن الخامس للمسيح.
الآراميون ودينهم في لبنان
ينتسب الاراميون الى ارام بن سام بن نوح واخوته عيلام
واشور وارفحشاد ولود وكلهم آباء أمم عظيمة وكان ارام اصغر
اخوته. سكن هو ونسله اولا ً في العراق بجوار اخوته ثم كانت
عليهم بركة ابيهم نوح فنموا وكثروا ثم انتقل ارام وبنوه
الى جهة الغرب فاستوطنوا بلاد الجزيرة فعرفت بهم وعرفوا
بها فقيل ارام نهرين ثم توفر عددهم فبلغوا حدود الشام حتى
زاحموا الكنعانيين وغلبوهم على قسم كبير من مواطنهم فملكوا
على حمص وحماة ودمشق وحلب ومنبج وربما نسبوا اليها فقيل
ارام دمشق وارام صبا وهلم جرا ً. ومن بني ارام النبطيون
الذين لعبوا في الشام وحدود العرب دورا ً مهما ً. اما
الانحاء التي بقيت في حوزة الكنعانيين فان بني ارام دخلوها
وامتزجوا باهلها امتزاج الماء بالراح. وهكذا فعلوا في
شمالي لبنان وفي مدنه الساحلية وان لم تكن لهم فيهما اليد
العليا.
ولم تخل فينيقية ولبنان من آثار الاراميين عند سكناهم في
ربوعهما ولو لم يبق من ذلك سوى اعلام مئات من قرى لبنان
لكفى به دليلا ً على انتشار العنصر الارامي. فان معظم هذه
الاسماء ليست كنعانية بل ارامية محضة باقية الى يومنا على
لفظها القديم المفتوح آخرها كرشميا (رأس الماء) وميروبا (الماء
الغزير) ودلبتا (الدلب) وبسكنتا (بيت المساكن) وبيت مري (بيت
السادة) وبكفيا (البيت الصخري) وعيناتا (الينابيع) وزرعاتا
(المزارع) وعينطورا (عين الجبل) وبقعاتا (السهول) وبرمانا
(بيت الرمان).
لا بل ثبت اليوم بانتقاد العلماء ان اللغة الارامية غلبت
بعد حين اللغة الكنعانية فاصبحت هي الشائعة في انحاء سورية
جمعاء الى ان درست لغة بني كنعان ودخلت في خبر كان. وقد
انتبه لذلك كبار المؤرخين في عهدنا لا سيما ائمتهم كالمؤرخ
الالماني الشهير ممسن حيث قال: اني ارى ان اللغة الارامية
سادت على كل لغة سواها في لبنان على عهد الدولة الرومانية.
وذهب العلامة المستشرق نلدكه الى انها اصبحت اللغة الوطنية
وبقيت في سيادتها الى زمن العرب وفتوحهم للشام فاخذت
العربية بعد مدة تزاحمها حتى حصرتها في الكنائس والطقوس
الدينية.
الديانة الآرامية - كانت ديانة بني ارام اقرب الى
دين الاشوريين منها الى دين الكنعانيين لما كان بينهم وبين
البابليين من وحدة الاصل فاخذوا عنهم كثيرا ً من مزاعمهم
الدينية. فكانوا كالاشوريين والبابليين يعبدون بيل الاله
العظيم. ونيبو اله الفكر. وأنو اله السماء وابو الآلهة
كانوا يصورونه على شبه انسان في نصفه الاعلى وعلى شبه سمكة
في النصف الاسفل. ونرجل الاله الاسد. وعبدوا الالهة عتر (وهي
استار الكلدانية وعشتروت الكنعانية). والالهة شيما معبودة
اهل حماة. والمرجح ان اسم القرية كفرشيما في لبنان منسوب
اليها.
ومما عبده الاراميون على مثال الاشوريين النيرات السموية
والكواكب. فعبدوا الاله سمس اي الشمس وكانوا يعدونها ذكرا
ً. وكان الاراميون يدعون الشمس باسم آخر وهو هدد ربما ورد
ذكره في كتاباتهم. وفي الاسفار القديمة عدة ملوك من
الاراميين كانوا يدعون باسم هذا الاله. وكانوا يرمزون اليه
بدائرة ذات اشعة. ومن معبوداتهم الاله سين وهو القمر
وكانوا اقاموا له هيكلا ً عظيما ً في حران. وكذلك عبد
الاراميون الكواكب لا سيما السيارات السبع فردا ً واجمالا
ً.
وقد أله الاراميون كسواهم من الشعوب قوات الطبيعة فادوا
لها العبادة. فعبدوا الاله رمان وهو اله الرياح ورشف اله
النار. ومن اخص معبوداتهم أترعطي (Atargatis) المدعوة
بالالهة السورية (Dea Syra) مركب من أتر وهي عشتروت اضافوا
اليها اسم الاله عطى (Attis, Attei) كقرينها وكانوا
يسمونها ايضا ً دركيتو يجعلون قسمها الاسفل كسمكة وكان
عبادها يمتنعون عن اكل السمك اكراما ً لها. وكانوا بقرب
هياكلها يغذون لاكرامها سمكا ً في احواض يشيدونها لهذه
الغاية.
وقد عبد الاراميون ثلاثة من الآلهة كالكنعانيين
والفينيقيين اعني هدد وسيميوس قرين الالهة شيما ثم اترعطي
زوجة الاله هدد. وفي الكتابات الرومانية قد ابدلوها باسماء
جوييتر (المشتري) وقانوس (الزهرة) ومركور (عطارد).
هذا ما يعرف عن ديانة الاراميين والمجهول منها كثير تكشف
المآثر الدفينة كل يوم منه شيئا ً. وقد ورد في كتابات تدمر
وسنجرلي اسماء عدة آلهة آرامية كأيل وركبيل وعجلبول
ويرحيبول وغير ذلك. وفي كتابات النبطيين آلهة أخرى كقيس
وذي شرى وظلم. والعلماء لا يزالون يبحثون عن خواصها
ومميزاتها.
الحثيون وديانتهم
الحثيون ينتسبون الى حث بن كنعان بن حام بن نوح كما ورد في
سفر التكوين (10: 15) هاجروا في الالف الثالث ق. م الى
شمالي سورية ونواحي فلسطين. وقد ذكرهم موسى في قصة ابراهيم
الخليل الذي ابتاع منهم مغارة حبرون التي فيها قبر هو
وابنه اسحاق وحفيده يعقوب وازواجهم. ثم نما جيل الحثيين
وصاروا دولة عظيمة امتدت من شمالي لبنان الى الفرات كما
صرح بذلك سفر يشوع بن نون (4:1) في وصف تخوم ارض الميعاد.
وقد انقسم الحثيون في الالف الثاني قبل المسيح الى قسمين
بسط قسم منهم سيطرته على قيليقيا وبر الاناضول حيث وجدت
لهم آثار عديدة. وبقي القسم الآخر في جهات حمص وكانت
حاضرتهم هناك مدينة قدس وآثارها تعرف اليوم بتل نبي مند.
ومن حواضرهم مدينة كركميش الحصينة قريبا ً من مخاضة الفرات
واخربتها بجوار جرابلس وقد اخذ الالمان والانكليز قبل بضع
سنين يستخرجون عادياتها العجيبة بالحفريات.
ولما قويت شوكة ملوك مصر وطمع الفراعنة بفتح بلاد الشام
زحفوا بجيوشهم الى سورية الشمالية وساروا الى بلاد الحثيين
فناوشوهم القتال غير مرة في عهد تحوتمس الثالث وساتي الاول
ورعمسيس الثاني ولا سيما رعمسيس الثالث الذي بعد غزوه بلاد
الحثيين في جهات الاناضول رضي بمحالفة ملكهم خطاسار سنة
1327 ق. م. وقد وجدت حديثا ً صورة العهد المضروب بينهما
باللغة المصرية والحرف الهيروغليفي ثم باللغة الاشورية
والقلم المسماري تاريخه سنة 1327 قبل المسيح ومنه يلوح ما
كانت عليه الدولة الحثية من عظم الشأن والسطوة والبأس.
ولنا على قوة الحثيين وفتوحاتهم شهود عيانيون في امراء
سواحل الشام الذين يكررون في مراسلات تل العمارنة في عهد
عمينوفيس الثالث وعمينوفيس الرابع شكواهم من غزوات الحثيين
لنواحيهم.
ثم قامت بعد ذلك دولة الاشوريين فحارب ملكهم تغلت فلاسر
ملوك الحثيين واضطرهم الى دفع الجزية في اوائل القرن
الثاني عشر قبل المسيح، ثم عاد اولئك الملوك في القرن
التاسع والثامن لمحاربتهم فكان الانتصار عليهم حليفا ً
للملوك اشورنزيرابال وسلمناصر وسرجون ففتحوا مدينتهم
قرقميش وشتتوا شملهم واضمحل ملكهم بموت آخر ملوكهم بيزيريس
سنة 717 ق. م.
ومما لا ريب فيه ان الدولة الحثية في زمن عزها قد حكمت على
قسم من لبنان الشمالي المجاور لحمص حيث كانت عاصمتهم
الكبرى قدس. وفي مراسلات تل العمارنة في القرن الخامس عشر
قبل المسيح انهم كانوا يشنون الغارات على سواحل فينيقية.
فان ريب ادى امير جبيل يشكو مرارا ً من غزواتهم لسواحل
لبنان.
على ان آثار الحثيين في لبنان لا تزال مجهولة لقدم عهدهم.
وانما الامل معقود باكتشافها اذا ما تمكن العلماء من فك
رموز كتابتهم التي لم يستطع المستشرقون الاطلاع على
اسرارها الغامضة. وكانت المجلات العلمية قبل اعلان الحرب
تبشرنا بوشك حل الغازها ومعمياتها ولا نعلم أتوفق الأثريون
الى ذلك ام لا.
ومما ذهب اليه بعضهم حدسا ً ان بين اسماء قرى لبنان اعلاما
ً حثية يستدل منها على نفوذ الحثيين في لبنان. والله اعلم.
ديانة الحثيين - لا يعرف منها الا النزر الزهيد.
ولعلها تختلف عن ديانة الامم المجاورة لهم في الصورة اكثر
منها في الحقيقة. فان الآثار البابلية والآثار المصرية
تذكر من جملة آلهة الحثيين الها ً يدعونه تيشوبو وهم عندهم
كالبعل الكنعاني وهدد الارامي. وقد وجدوا صورته في عاديات
بابل تراه لابسا ً زي الحثيين وفي يده الفأس والصاعقة
كالاله هدد.
ومما ذكر للحثيين من المعبودات في عهد رعمسيس الثالث مع
ملك الحثيين الشمس وهي معدودة هناك كذكر يدعونها باله
السماء واله الارض. وورد هناك ايضا ً بين آلهتهم الاله
سوتخ والمظنون انه الاله سيت المصري.
وقد استعاروا ايضا ً من جيرانهم الكنعانيين عبادة عشترت
الالهة الكنعانية وآلهة غيرها يعدون بعضها كسادة الارض او
سادة الجبال او رؤوس المظاهر الطبيعية. وخلاصة القول ان
الحثيين عشقوا جمال الطبيعة فاتخذوا محاسنها كآلهة فادوا
لها من الاكرام ما لا يحق الا للخالق عز وجل.
الكلدان والاشوريون في لبنان وديانتهم
تملك الكلدان ثم الاشوريون دهرا ً على فينيقية ولبنان قبل
الدولة المصرية وبعدها. ثبت ذلك من آثارهم المروية في
الكتابات المسمارية المكتشفة في القرن الماضي والمدونة في
بعض انحاء لبنان كما سبق في باب الآثار القديمة.
الكلدان وهم البابليون من اقدم شعوب المعمور ثم تبعهم
الاشوريون وكلهم من عنصر سامي استولوا على حوضي دجلة
والفرات بعد ان دحروا الكوشيين الذين سبقوهم في ملكهما في
عهد نمرود. وقد عرفت هذه الامم بالشدة والبأس والعظمة
والفتوحات الواسعة والتمدن الراقي والفنون الجميلة
والاكتشافات الفلكية العجيبة.
ديانتهم - اقدم ما ورد في آثار الكلدان عن ديانتهم
انهم عبدوا اولا ً ثلثة آلهة اعني بهم: اولا ً أنو اله
السماء وابا الآلهة. ثانيا ً أنليل اله الارض الذي عرف بعد
ذلك باسم بيل وشاعت عبادته في مدينة نيفور. وثالثا ً الاله
ايا او انكي اله البحر وسيد البشر ومخترع الفنون ومنشىء
التمدن. وقرنوا بهذه الآلهة ثلث زوجات وهن "انتو لأنو" و "ننليل
لأنليل" و"ننكي او دمكينا لانكي".
ثم تحولت بعد ذلك ديانتهم الى ديانة فلكية فعبدوا الاله
سين وهو القمر ثم الاله شمس وهو الشمس زعموا انه مولود
الاله سين ثم عشتار. وكانوا يعتبرون الاله سين كاعظم
الآلهة كملك آلهة السماء والارض وكانت هياكله مشهورة في
مدينتي اور وحران. وكانوا يعدون الاله شمش كاله العدل
والنواميس. كانت عبادته شائعة في صفر شمالي بابل وفي لارسة
جنوبيها. اما عشتار فكانوا يدعونها ملكة السماء ويزعمون
انها الزهرة كوكب الصبح وينسبون اليها مبدأ الحياة والنشوء
وكان الاشوريون يكرمونها كالهة الحرب فجمعت بين الهمجية
الدموية وضروب الخلاعات. وقد كان اهل ارك اقاموا لها هيكلا
ً فخيما ً تجري فيه الرتب الدينية الفاحشة. ولذلك تدعى
مدينة ارك في الآثار الاشورية بمدينة المومسات والعواهر.
ولما تولى الملك حموربي على بابل اصبحت هذه المدينة مركز
الدين لسائر مملكة البابليين فاتخذت لها معبودا ً الاله
مردوك واعتبره كهنتها كاله الكون وهو على زعمهم ابن الاله
ايا. كان وزوجته الالهة صرفنيت خلفا الاله نابو اله الحكمة
والعلوم ومعبود مدينة برسبا. وعبدوا ايضا ً الاله نينيب
اله الحرب والصيد والفلاحة والاله نرجل اله الاوبئة والموت.
والاله هدد او رمان اله الزوابع والانواء والاله دموزي او
تموز اله الربيع والنسل سبقت عبادته في بابل قبل شيوعها في
فينيقية.
والاشوريون الذين خلفوا البابليين اخذوا عنهم كل خرافاتهم
الدينية الا انهم رفعوا الههم اشور الى رتبة عظام الآلهة
يجلونه ويكرمونه في كل فتوحاتهم. وكانوا يدعون ان هذا
الاله لا ابا ً له ولا ابنا ً ولا قرينة. واسمه يدخل في
اسماء كثير من ملوك الاشوريين كأشور بنيبال واشور نزار
واشور حدون.
وكان الكلدان والاشوريون بارعين في علم الهيئة وقد نشر
الابوان اليسوعيان الالمانيان ستراسماير واييينغ ارصادهما
الفلكية فبهت العلماء بضبطها ودقتها. على ان علم الفلك
دفعهم الى التنجيم وضروب السحر المبني على حركات النجوم.
وقد ذكر حزقيال النبي (21: 24) بعض طرائقهم من العرافة
كاجالة السهام واستشارة الترافيم والنظر في اكباد
الحيوانات وقد تفننوا في كل ذلك حتى اصبح اسم الكلدان
مرادفا ً للسحرة.
ومن عباداتهم تقدمة الجواهر والاطعمة لآلهتهم وكانوا
يرمزون الى بعض هذه الآلهة بحيوانات يكرمونها مثل الحية
وغيرها وكانوا يضحون الضحايا لآلهتهم من طيور واسماك وذوات
الاربع كالبقر والخراف والغزلان. وكانوا يعتقدون حياة ً
اخرى بعد الموت حيث يثاب الصالحون ويخلد الطالحون بالعذاب.
اما البعث وقيامة الاجساد فلم يجدوا لهما ذكرا ً في الآثار
المسمارية حتى اليوم.
وقد ثبت بعد اكتشاف شرائع حموربي ان البابليين امتازوا بين
الشعوب القديمة بحكمتهم ودقة نظرهم في حسن الآداب. على
انهم لم يبلغوا في ذلك مبلغ الاسرائليين. المصريون
في لبنان
وديانتهم