لبنان... جبين لا ينحني - بيروت - 1978
- أبريزا المعوشي (مقتطف)
تمهيد
لماذا كتبت هذا الكتاب؟! سؤال يطرح نفسه،
ولكنه يلاقي اجوبة لا حصر لها..
ان حرب لبنان 1975- 1976 وما كانت عليه من فواجع، وما
افرزت من حلقات مؤامرات، وما رافقها من بطولات دفاعا ً عن
وجود وسيادة هذا الوطن وبقاءه، تستدعي كتابة مئات الكتب بل
مئات الملاحم، ولا تنتهي الحكاية، ولا يستهلك الجوهر!!
فلا عجب اذن، ان دبجت هذه الصفحات، وقد كتبتها بريشة غمست
مدادها بدموع الأيتام، والثكالى، والجياع والخائفين،
وتابعت كتابتها بدماء الشهداء الأبطال الذين زرعوا ارواحهم
على دروب لبنان!!
كتبتها وانا اختنق من رائحة البارود والنار وليس برائحة
الحبر التي رافقت عمري!!
كتبتها وانا اسمع نحيب قلبي وندب روحي على روحي.. لئلا
اموت قبل ان ارى لبنان عملاقا ً جبارا ً يتحدى الغدر
والأحقاد!!!
كتبتها بالتياع المواطنة البسيطة التي ترى وطنها ينهار،
ويحتضر ويبدأ ساعات النزاع!!
كتبتها باحساس "الأم" وكل امرأة منذ ولادتها أم هي!! أم
تشاهد اطفالها يذبحون، وبيتها ينهار فوق رؤوس عائلتها!!
والمرأة اللبنانية، اليست مواطنة، ليكون لها شرف الدفاع عن
وطنها، محققة بذلك انسانيتها وكبرياءها وعنفوانها؟ وهي
المخلوقة التي تعطي حياتها دون حساب لمن تحب؟! وهل في
الحياة اغلى من لبنان؟!!
اندفعت كما اندفعت اخواتي الى ساحات الشرف، تحمل كل منهن
بندقية، وقد تركن التبرج والأناقة الى حين يشهدن قيامة
لبنان من الموت. ويشاركن في عرسه التاريخي!!
اندفعت انا من لا تجيد حمل البندقية، ولكنني حملت قلمي
الذي اجيد اطلاق نفثاته، لتكون كنبال، ملتمعة كحد السيف في
ليلة قمرية!! كمن اطلقها لربما تصيب ضمير مائت.. تعيده الى
الحياة، تردع تجار الأرواح عن بيع الأبرياء.. تطرد الأرواح
الشريرة عن أرض لبنان!!
كنت أطلق أحرفي بل التياعي من اذاعة "صوت لبنان" تلك
الاذاعة التي كانت وحدها صوت كل لبناني، يؤمن بعظمة وخلود
لبنان. كنت ارحل اليها دون ان أعبأ بالقنابل!! لم ارتعش من
قذائف المدافع، لم يرعبني قناص غادر، كأن الحب اذي يزغرد
في صدري لوطني تحول الى معجزة اتحدى بها الموت!! ما همني
لو مت!! ما الحياة بلا لبنان؟!!
كتبت مقدمة هذا الكتاب، ناقلة واقعا ً لتاريخ حدث عبر
الزمن. وعندما كتبت التعاليق السياسية، وان كنت اذيعها من
اذاعة الكتائب، انما انا لا منتمية الى أي حزب، لا الى
الكتائب ولا الى الأحرار. بلى!! انني انتمي الى لبنان!!
على ان لي الشرف لو كنت منضوية تحت لواء احدهما، يكفي ان
مبادئهما ترتكز على مجد وخلود لبنان، وفي نظري ان كل
لبناني يؤمن ببقاء وسيادة وطنه من أي طائفة كان، هو كتائبي،
هو احرار!!
كنت أطلق التعاليق السياسية التي جاءت بمثابة وثائق يومية
واسبوعية، دون الانحياز الى أي فئة. كنت اثور من اجل مأساة
وطني، لا فرق عندي من هو الانسان الذي اخاطبه واثور على
ظلمه.
ان ما كتبته كان بنظري هو الحقيقة.. وقد يقال، انه ليس في
الحياة حقيقية... لان كل انساان يراها بجانبه، حيث تناقض
حقيقة أخرى!!
انما حقيقة واحدة، كانت ساطعة أعانيها، هي ان وطني،
يغتالونه، يذبحونه ويقتلون أهلي!! وكان علي ان أكون ولو
يدا ً صغيرة تدافع عن وطنها، ولعل كلماتي كانت لتصيب عينا
ً عمياء فتبصر، وترشد جاهلا ً، وتهز متعصبا ً وتمنع مجرما
ً عن ذبح لبنان الذي كان للعالم منارة حضارة، وانشودة حب!!!
عرض وتحليل
لبنان وطن صغير، لا تتعدى مساحته "ال 10 الاف كيلومتر مربع"
ولكن الأوطان لا تقاس بكبر مساحاتها، انما تقاس بمعطياتها
الانسانية والفكرية والحضارية، وما تعكس منها على محيطها
وعلى البشرية!!
الا يجسد لبنان كل هذه المعطيات؟! وهو، منذ انبثاق تاريخه
الذي يعود الى ما يقارب الستة آلاف سنة ق.م. حيث كان ملجأ
ومعقلا ً لكل من اضطهاد وقست عليه الحياة. حتى ان الكتاب
المقدس في عهديه القديم والحديث ذكر اسم لبنان في صفحاته
ما لا يقل عن مئة مرة!! هذا الوطن الصغير له اهميته وعظمته
في التاريخ، وعظمة الأوطان تصنعها الشعوب!!
لا بد لنا من ان نعود قليلا ً الى صفحات تاريخ لبنان،
فنستخلص منها ولو شذرات من عبر وصور مشرقة كانت او عابسة
وذلك كي نمهد طريقا ً مختصرا ً او متشعبا ً حتى نصل الى
حرب لبنان الفاجعة 1975-1977.
دخل لبنان سنة 1516 في "ممالك" الدولة العثمانية. الا انه،
بفضل وعي شعبه، ودهاء أمرائه، كان له نظام خاص، هو نظام
الدولة الوراثية المستقلة ذاتيا ً في الامبراطورية
العثمانية. وذلك بخلاف نظام الولايات التي كان يحكمها
الاتراك مباشرة بواسطة ولاة يعينهم السلطان.
وقد تعزز الكيان اللبناني، وترسخ استقلاله، وكان له
العلاقات الدولية مع الغرب، على عهد فخر الدين الثاني
الكبير. ومنذ هذا العهد اخذ الموارنة ينحدرون نحو الجنوب
من ديارهم الشمالية في الزاوية، والجبة، والبترون، وكسروان،
فينتشرون في جميع انحاء المناطق اللبنانية، وبخاصة في
المناطق الدرزية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فبدأت
لفظة جبل لبنان تطلق على جميع هذه المناطق التي تحولت الى
مقاطعات مارونية ودرزية، قسمت اجزاء نفوذ بين الأمراء
والاقطاعيين اصحاب الثروات والنفوذ!! أما المسلمون السنيون
والروم الأرثوذكس فكانوا يسكنون السواحل اللبنانية كصيدا
وصور وطرابلس.
وأما الشيعة فكانت مراكز الثقل عندهم جبل عامل في الجنوب
وانحاء بعلبك - الهرمل في الشرق.
والجدير بالذكر ان حدود لبنان في العهد العثماني، وفي
اثناء الحكمين المعني والشهابي، كانت لا تختلف عن حدود
لبنان الحاضرة. وقد طبع لبنان منذ مطلع القرن السابع عشر
بطابع خاص ووحدة سياسية وشخصية فريدة تميزه عن باقي البلاد،
وبخاصة تلك المحيطة به، نظرا ً لوجود طوائف متعددة فوق
ارضه، فكانت الحضارتان المسيحية والاسلامية، تجعلان منه
فسيفساء جميلة ترتفع به الى اسمى الأوطان. وهكذا حافظت
جميع الأسر التي حكمت لبنان وتعاقبت على ادارة شؤونه، على
هذا الطابع المميز، الذي جعله فيما بعد، يسير في خطى سريعة
نحو الارتقاء الى مصاف الأمم الراقية.
كان جميع اللبنانيين ينتمون الى نظام سياسي واحد، حيث كان
الماروني يقف الى جانب السني والدرزي والشيعي متجاوزين
جميعهم العصبية الدينية والاعتبارات الطائفية، يدافعون عن
قضية او منطقة. لكن الخلافات بين الأمراء والمشايخ في
تزاحمهم على الحكم والنفوذ... كان يخلق تلك الحزبيات
المحلية، والطابع العشائري... والاقطاعي... الذي تغلغل الى
عامة الشعب، وتمركز في نفوسهم!!!
لقد بقيت رواسب هذه الروح الاقطاعية تتفاعل في النفوس الى
يومنا هذا... ومما يؤسف له، ان اليوم غير الأمس، ففي الأمس
كانت الجهالة تسيطر على النفوس، والعلم والثقافة والبعد
الحضاري كانت كلها في حكم العدم. اما ونكاد نلامس فجر
القرن الحادي والعشرين، وما وصل اليه من تطور وبدل من
مقاييس، وقلب من مفاهيم، وغير من معادلات، الا ان الروح
التي كانت سائدة في الماضي البعيد لا تزال تتكاثر في
الصدور مثل الطفيليات على هامش المستنقعات!!
كانت حياة الموارنة والدروز والشيعة، تختلف تماما ً عن
حياة المواطنين الأخر من السنة والروم الأرثوذكس، وذلك من
حيث النمط الاجتماعي والمفهوم السياسي، فاولئك كانوا
معتزين في الجبال التي كانت حصونا ً لهم، وقد أثرت عليهم
الطبيعة القاسية، وصخور جبالهم الصامدة، فأصبحوا مثلها
أشداء أقوياء، اعتادوا شظف العيش، ولا يثيرهم في الحياة
سوى الحفاظ على حصونهم. أما السنة، فقد تعودوا سهولة العيش
لوجودهم على الشواطىء منصرفين الى التجارة وما تقذف اليهم
من نعم، الى جانب هذا فقد وطدوا روابط مهمة، وصلة مع
العالم المحيط بهم، اذ كانوا يحسون بمصالح تشدهم الى
اخوانهم في المناطق الأخرى، وبخاصة المناطق الشامية، "وقد
يكون هذا الانجذاب متأتيا ً من العصبية الدينية" وهكذا كان
الحال بالنسبة للروم الأرثوذكس، حيث كانوا منجذبين الى
أبناء طائفتهم في بيروت والشام ومصر. ولا يهمهم سوى تأمين
تجاراتهم ومصالحهم المادية غير عابئين بشؤون الحكم، فقد
كانوا مكتفين من الحكم الاسلامي السني بتأمين حقوقهم
المدنية لا السياسية التي لم يكن للذمي ان يتطلع اليها.
"هذا الواقع الانجذابي... يدل على ان لبنان - الساحل بنوع
خاص، في تلك الحقبة من تاريخه، كان مقسوما ً الى شيع، وكل
شيعة تتجه بانظارها نحو مصالحها الحياتية، وتنجذب عاطفيا ً
نحو أبناء دينها، أينما كانوا. ولم تكن فكرة الوطن بما لها
من عظمة.. وشمول.. وحنين.. وكرامة.. الا في الجبل".
هذا كان في الأمس... ترى هل لا تزال رواسبه تستوطن النفوس
حتى اليوم؟! بعدما أصبح لبنان كله وطنا ً للجميع.. ذا
سيادة واستقلال، يمنح كل مواطن كرامة وحرية ورغد عيش؟!
وهل ما حدث ويحدث فيه من اضطرابات وثورات تجعله يستحم
بدماء شهدائه كل بضع سنوات، هل كانت اسبابها تلك، هي
الرواسب القديمة؟! وهل معطيات هذا الوطن، هي نفسها التي
كانت في الأمس حتى تبقى النفسيات مشحونة برواسب الماضي بعد
كل التطورات الفكرية والسياسية والاقتصادية التي لامست
جوانب لبنان!؟ ألم تستطع ان تنقي وتطهر النفوس لتسكن فيها
الوطنية الصادقة والولاء حتى التفاني في سبيل وطننا لبنان؟!!
تمتع المسلمون السنة فقط، في السواحل، دون الطوائف
اللبنانية الأخرى حتى الشيعة منها.. بطمأنينة خاصة، وذلك
لوجودهم في مناطق تحكمها مباشرة الدولة العثمانية
الاسلامية، فاقتنعوا بالامتيازات التي منحت لهم "لانتمائهم
الى دين الدولة الحاكمة".
أما الموارنة فقد اتخذوا من جبلهم الحصين موطنا ً، ووجدوا
دعامة سياسية اوروبية، فتحت لهم أبواب العالم الغربي تجارة
وثقافة، فأخذ شبانهم يتوافدون الى روما لنهل العلوم
اللاهوتية. ومن ثم أنشىء المعهد الماروني في روما سنة 1584
فبدأت الارساليات الأجنبية من فرنسيسكان ويسوعيين وغيرهم،
يأتون لبنان. وفي عام 1596 ومن ثم سنة 1736 أقر "المجمعان
المقدسان اللذان عقدا ً في قنوبين واللويزة في لبنان"
اتحاد الكنيسة المارونية مع روما اتحادا ً تاما ً وذلك
بحضور مندوبين عن قداسة الحبر الأعظم.
وعلى أثر ذلك منحت فرنسا للمرة الأولى في تاريخ السلطنة
العثمانية، امتيازات خاصة، وكان من الطبيعيي ان تباشر
فرنسا انماء مصالحها في بلاد الشام. وبما أنها كانت الدولة
القوية في اوروبا، فاعتبرت نفسها حامية للموارنة في لبنان،
مما وثق الصلة فيما بينهما، وبالتالي اتاح للبنانيين
الموارنة من ان يوطدوا صلة لابأس بها مع العالم الأوروبي
كانت لها أهمية من الوجه السياسي.
اذن الموارنة وجدوا أسوة بغيرهم من يتطلعون اليه ليحميهم.
وفي عام 1856 كانت الدولة العثمانية في حرب مع روسيا مما
أحال قوتها الى ضعف، هنا انتهزت اوروبا فرصة سانحة، لتضع
أقدامها في بلادنا، ولكن روسيا كانت اولى الدول التي تدخلت
في شؤوننا، حينما ثارت الاضطرابات في بلاد الشام.. ومنذ
ذلك التاريخ تحولت هذه البلاد الى موضع تنازع بين الدول
الأجنبية، من بريطانية، وفرنسية، ونمساوية وغيرها... وكل
دولة كانت تأخذ فريقا ً الى جانبها، تؤلبه ضد الفريق الآخر...
ثم تعود تلك الدول، وتتفق فيما بينها، تجمعها المصالح
المشتركة، فتتقاسم المغانم على حساب الشعب والدولة
العثمانية.
وفي سنة 1839 اعتلى العرش السلطان عبد الحميد، فقام بعدة
اصلاحات عرفت "بالتنظيمات الخيرة" فاعترف السلطان بموجب "مرسوم
شريف" بمبدأ المساواة بين رعايا السلطنة من مسيحيين
ومسلمين، فثار المسلمون، بسبب تلك الحقوق الممنوحة
للمسيحيين لأن في ذلك انتقاصا ً من حقوقهم وامتيازاتهم
تجاه الذميين، فانطلقت في البلاد موجة من التعصب الديني
مما جعل النصارى، يحسون بالخطر يهدد وجودهم، وزاد من
تخوفهم، ان بعض الألوية من جنود وضباط عثمانيين، حتى بعض "المتصرفين"
تواطئوا جميعا ً خفية مع الدروز والمسلمين ضد النصارى.
وهكذا انفجرت ثورة 1860 متخذة طابعا ً طائفيا ً، فجرد
المسيحيون من السلاح في بلدة "دير القمر" وغيرها من القرى
المسيحية، واخذوا على بغتة في دير القمر، وزحلة، وحاصبيا،
وراشيا، فقتل منهم ما يقارب الأحد عشر الفا ً، ومات ما
يزيد عن الأربعة الاف جوعا ً، وتشرد نحو مئة الف، كما
احرقت المنازل والمواسم الزراعية، وذبحت النساء والأطفال،
ثم تابعت الثورة اندلاعها حتى عمت كل المناطق اللبنانية!!!
واذا تعمقنا في اسباب ثورة 1860 نجد ان النعرات الطائفية
هي دائما ً سبب البلاء في الأمس.. واليوم.. وهذا الحقد
الطائفي المكدسة رواسبه عبر سنين، كانت تغذيه الدولة
العثمانية، تابعة قول المثل: "فرق تسد" بالاضافة الى تدخل
الدول الأجنبية في شؤوننا "لن نعفي الصهيونية العالمية من
كل ذلك حيث كانت تقف وراء السلطنة العثمانية وغيرها من
الدول الأجنبية كما سنكشف ذلك في هذه اللمحات التاريخية
فيما بعد"... وكانت السلطنة العثمانية، أيضا ً تدرك ان
تماسك الشعب اللبناني واتحاده، يشكلان خطرا ً عليها، فكانت
تثير الاضطرابات ليتلهى عنها، ويتناسى سلاسل الذل الملتفة
حول عنقه!!
والبراهين كثيرة على ذلك، فمثلا ً: كان العثمانيون يدعون
الدروز الى التجنيد الاجباري، "في حين كانوا يعفون
المسيحيين من تلك الضريبة الاجبارية، مقابل ذلك كانوا
يدفعون جزية مالية كبيرة" فيرفض هؤلاء ويعلنون العصيان،
ويتحصنون في معاقلهم في وادي التيم وحوران، فعندما يعجز
العثمانيون في اخضاعهم، كانوا يحرضون الموارنة ضدهم،
فتشتعل الحروب، ويختل حبل الأمن، فيأتي العثمانيون ويقطفون
الثمار!!!
ألا ترى فارئي العزيز، ان التاريخ يعيد نفسه في بلادنا،
حيث لا تزال الدول الأجنبية وغيرها تتلاعب بنا، حيث تجد
لها ارضية خصبة لتبذر بذور التفرقة، بايثارتها النعرات
الطائفية، فنتقاتل ونتذابح ونهدم بلادنا، ومن هو المستفيد؟!
طبعا ً الدول الأجنبية، وعلى رأسها اسرائيل، وما لها من يد
طولة في محاولة لابادتنا من الوجود في لبنان وغيره على
اختلاف مذاهبنا وعقادئنا!!
ألا تشبه ثورة 1860، وغيرها من الفتن التي حدثت عندنا حرب
المأساة 1975- 1976 وان تبدلت الأسلحة، وان تبدلت الوجوه..
وظهرت وجوه جديدة.. قريبة.. أو بعيدة.. وان تقنعت بغير
اقنعة الماضي!! مسكين لبنان!! ومساكين أهله!!!
وصلت أنباء الحرب الطائفية، في لبنان مسامع السفارات
الأوروبية في "الأستانة" فطلبت الى "الباب العالي" ان يوقف
تلك المجازر، فأرسل بارجة حربية الى بيروت في 19 حزيران.
ومسكين "الباب العالي" كم هو رؤوف... فلماذا ارسل البارجة
في هذه السرعة.. بعدما كانت المذابح قد انتهت.. وفي الوقت
نفسه وصلت الأنباء المريعة نفسها الى اروروبا فأثارت جوا ً
من الاستياء العام، فهبت فرنسا تريد التدخل، ولكن السلطنة
العثمانية منعتها، بحجة أن الفتنة قد اخمدت وقد سوي كل شيء!!
ولكن مجزرة أخرى وقعت للمسيحيين في دمشق، بعد شهر تقريبا ً
من مذبحة لبنان، أي في 9 تموز من سنة 1861 نفسها، اذ انقض
على حين غفلة بعض الأفراد من المسلمين، على حي النصارى
وكان هؤلاء عزلا ً من السلاح، سلاحهم كان الثقة بالدولة
الحاكمة الذين هم من رعاياها.. فقتل منهم ما يزيد على
5500، وثقة هؤلاء النصارى المسالمين كانت في موضعها.. اذ
لم يحاول أحمد باشا والي دمشق أن يوقف تلك الفاجعة بل أن
جنوده، قد اشتركوا في تلك المجازر، مما جعل هؤلاء الأفراد
المسلمين في دمشق يظنون أن السلطنة العثمانية تريد القضاء
على المسيحيين، لهذا ازدادت حماستهم في القتل والتنكيل!!
لكن فرنسا هذه المرة، صممت على التدخل الفوري، وفي 26 تموز
أرسلت الحكومة الفرنسية سبعة الاف جندي الى بيروت، وتدخلت
البوارج البريطانية أيضا ً حيث وصلت بيروت ولم تستطع هذه
المرة السلطنة العثمانية من وقف أو منع فرنسا من أن تدخل
لبنان !!
في ذاك الحين، تألفت في بيروت لجنة دولية من ممثلي فرنسا
وبريطانيا وروسيا والنمسا وبروسيا وفؤاد باشا عن السلطنة
العثمانية، وذلك للنظر في اعادة تنظيم لبنان، فأقروا له
نظاما ً عرف "بالنظام الأساسي" وبعد ذلك أصبح لبنان يتمتع
باستقلاله الداخلي بعدما ضمنت حمايته الدول السبع التي
وقعت نظامه. وهكذا أصبح لبنان منذ عام 1861 مرتكزا ً على
النظام الأساسي، له اداراته المستقلة يترأسه متصرف مسيحي
على شرط ان لا يكون لبنانيا ً، يعينه "الباب العالي"
وتوافق عليه الدول السبع.
ويضيق هنا المجال لذكر العديد من الأحداث والتفاصيل، الى
أننا نستطيع أن نذكر أن المتصرفية التي أنشئت منذ عام 1861
كانت أساسا ً لضمان استقلال لبنان الذاتي وبطريقة غير
مباشرة، كانت لصالح المسيحيين، وعلى الرغم من الامتيازات
التي نالوها، الا أنهم أبدوا نقمة على المتصرف المسيحي
كونه لم يكن لبنانيا ً بموجب النظام. "وهذا ما يدل على أن
المسيحيين يتجاوزون الحساسيات الطائفية.. وأي منفعة شخصية..
اذا وقفت في وجه حريتهم واستقلال لبنان"...
وعلى أثر هذه النقمة، هبوا يرفضون تصغير لبنان، ويصرون على
توسيع دائرة حدوده بحيث تشمل البقاع وبيروت وطرابلس وصيدا
وعكار والحولة ومرجعيون. وقاموا يطالبون بتدخل الدول الست
التي ضمنت استقلال لبنان الذاتي، لتنفذ هذه المطاليب،
وتجري الاصلاحات اللازمة.
وكما سبق ذكره، أن"الباب العالي" أصدر مرسوما ً عرف "بالتنظيمات
الخيرة" يتساوى فيه جميع رعايا السلطنة العثمانية، على
اختلاف مذاهبهم، ألا أن المسلمين والدروز، قاموا بثورة
رافضين أن يتساوى المسيحيون مع المسلمين في الامتيازات. "اذ
كانوا يعتبرونهم من أهل الذمة". أما العثمانيون فكانوا
يهدفون من هذه الاصلاحات الى خلق قومية عثمانية، وبرفض
المسلمين المساواة بينهم وبين المسيحيين، هب المسيحيون
يرفضون القومية العثمانية، وأصروا على الاحتفاظ باستقلالهم
الذاتي "حتى لو كانوا سيخسرون امتيازات عدة" في جبل لبنان
الذي اعتبروه وطنا ً قوميا ً مسيحيا ً دون أن يكون ذلك
معترفا ً به رسميا ً من السلطنة العثمانية ومن الدول
االأوروبية السبع.
وفي أواخر القرن التاسع عشر، برزت فكرة القومية العربية،
لدى بعض الكتاب والمفكرين المسيحيين، أمثال ابراهيم
اليازجي ويعقوب صروف وفارس نمر، وهؤلاء الكتاب المسيحيون
الناشئون، ساروا على دروب البحاثة بطرس البستاني الذي كان
قد نادى عام 1860 بالتآخي بين المسيحيين والمسلمين في أول
مقالة له في جريدة "نفير سوريا".
"هذه الانتفاضة القومية، تدل على أن المسيحيين يعون واقع
وطنهم، ولا يتوانون عن الاندماج في محيطهم، على أن تحفظ
لهم كرامتهم وحريتهم". لهذا وافقوا على اقرار تلك المباديء،
ايمانا ً منهم، بأنها السبيل الى تعاون مسيحي - مسلم. اذا
ً فكرة القومية العربية قد فجرها المفكرون اللبنانيون، قبل
أن تندمج بفكرة القومية الاسلامية، ولم يتصوروا أنها
تتنافى مع القومية اللبنانية التي كان ينادي بها بعض
اللبنانيين المسيحيين. وراحت هذه الدعوة تتحدى القومية
العثمانية في عقر دارها، لتؤلف فكرة وطنية قومية تبنى على
مفاهيم ومعطيات انسانية وثقافية وحضارية بين الحضارتين
المسيحية والاسلامية.
بدأت القومية العربية، تحارب وترفض من قبل بعض المسلمين
الذين يناصرون القومية العثمانية، ولكنها أخذت تنمو
وانطلقت صيحات من خارج لبنان تنادي بها وكان أول من تحمس
لها ونادى بها عام 1902 أحد المواطنين الوجهاء في حلب عبد
الرحمن الكوكبي.
ولكن في سنة 1908 حصل انقلاب على السلطان عبد الحميد،
فخلفه على العرش أخوه محمد رشاد، وتسلم الحكم أحد الأحزاب
التركية "حزب تركيا الفتاة" فتخلى هؤلاء عن فكرة القومية
العثمانية، واحلوا مكانها "القومية التركية" واعتبروا
يومذاك أن الأتراك هم عنصر متفوق على جميع الشعوب وبخاصة
شعوب السلطنة العثمانية بما فيهم المسلمون... فأغضب هذا
التمييز، المسلمين في لبنان والبلاد السورية. وكانت كافية
لتخلق فجوة من التنافر بينهم وبين الدولة التركية الحاكمة!!
وفي هذه الأثناء نشطت كثيرا ً فكرة القومية العربية من
جديد لتستقطب معظم المواطنين السوريين واللبنانيين على
اختلاف مذاهبهم، ولكن المسيحيين أخذوا يتخلون فيما بعد عن
هذه الدعوة بعدما كانوا هم زارعو بذورها لأنها أخذت تبتعد
عن مفهومها القومي لترتدي وجها ً طائفيا ً!! وراح دعاتها
يسعون الى خلق امبراطورية اسلامية تضم اليها جميع البلدان
الاسلامية، ألا أن المسيحيين ظلوا على وفاق تام مع
المواطنين الأخر، يناضلون معا ً للانفصال عن السلطنة
العثمانية، باعلانهم العدواة لها.
لم يكن اللبنانيون من مسيحيين ومسلمين فقط، يحاولون
الانفصال والاستقلال عن السلطنة العثمانية، فقد قام الشريف
حسين سيد الحجاز في أوائل حزيران من عام 1916 وأعلن ثورة
ضد الأتراك "بتشجيع من بريطانيا وقد وعدوه أيضا ً باقامة
امبراطورية عربية يكون هو مليكها". فهب دعاة القومية
العربية في لبنان يدعمونه ويؤيدونه، فتم له ما أراد، فنادى
بنفسه ملكا ً على البلاد العربية. ولكن المسيحيين في لبنان
ثاروا وقاموا يرفضون الانضمام الى الامبراطورية العربية
الاسلامية تلك "خوفا ً من أن يذوب وجودهم فيها كأقلية في
الشرق العربي الاسلامي"!!
أخذ المسيحيون آنذاك يتطلعون الى فرنسا حاميتهم ومحققة
استقلالهم الذاتي في عهد المتصرفية، وهكذا تحركت فرنسا
لرعاية مصالحها في الشرق، وكان أن عقد اتفاق بين "جورج
بيكو قنصل فرنسا مع السر مارك سايكس" على أن لفرنسا مصالح
في سوريا ولبنان، وقام البريطانيون يفهمون الشريف حسين
بذلك على أن سوريا ولبنان لن ينضما الى امبراطوريته بموجب
اتفاق "سايكس بيكو".
في أيلول 1918 انهزم الأتراك في معركة "مرج ابن عامر" في
شمال فلسطين مع الحلفاء، ومن الطبيعي أن تنهار الدولة
العثمانية، فدخل الجيش العربي التابع للشريف حسين بيروت،
فقام الحاكم التركي وسلم مقاليد الحكم الى أحد وجهاء
المسلمين في بيروت "عمر الداعوق" فأعلن بدوره قيام حكومة
عربية، رفعت اعلامها على المؤسسات الرسمية. ولكن احتلال
بيروت من القوات العربية لم يدم طويلا ً "لم يتعد ثلاثة
أيام" فقد انزلت وحدات من الجيش الفرنسي في بيروت، عندئذ
سلم عمر الداعوق سلطته الى القيادة الفرنسية.
وفي أول أيلول سنة 1920 نفذ المفوض السامي الفرنسي الجنرال
"غورو" موافقة مؤتمر الصلح المنعقد بفرساي على قرار المجلس
الاداري اللبناني باعادة الأراضي المسلوخة عن لبنان سنة
1861، وأعلن بخطاب تاريخي ضم بيروت والبقاع وطرابلس وصيدا
وملحقاتها الى متصرفية جبل لبنان، وجعلها جميعا ً دولة
واحدة، وفي غضون يومين أعلن لبنان الكبير كدولة ذات سيادة
تحت الانتداب الفرنسي
على أثر ذلك برزت مشكلة، وهي عندما تم توسيع حدود لبنان،
رفض المسلمون ذلك على اعتبار أنهم "سيكونون أقلية بين محيط
تسيطر عليه أكثرية مسيحية" فقاموا يطالبون بضم الأجزاء
التي جعلت من لبنان الكبير، الى سوريا "علما أن تلك الحدود
وان كانت تابعة لولاية دمشق، الا ان هذه الأجزاء كلها كان
يسيطر عليها الأمراء المعنيون والشهابيون اللبنانون
ويبسطون عليها نفوذهم".
وهكذا ظل المسلمون السنيون في لبنان يرفضون التعاون في
الحكم مدة طويلة وان أول مسلم سني اشترك في الحكم هو
الوجيه الطرابلسي الشيح محمد الجسر. ولا شك في أنه لاقى
الكثير من الانتقاد في محيطه الاسلامي الا أن النجاح الذي
احرزه اغرى الكثيرين من السنيين ان يشتركوا في الحكم فيما
بعد.
أما المسيحيون، وان كانت فرنسا هي التي منحتهم استقلالهم
الذاتي فقد قاموا يطالبونها في سنة 1927 بقدر أوسع من
الاستقلال ليتسلم مهام الحكم، أحد من اللبنانيين مكان
الحاكم الفرنسي. وبعدما أصبح اميل اده رئيسا ً للجمهورية
اللبنانية في عام 1936 أخذ يطالب الفرنسيين بعقد معاهدة
بينهم وبين لبنان تحل مكان الانتداب.
وقام السوريون أيضا ً يطالبون الفرنسيين بعقد معاهدة كالتي
يلح لبنان لنيلها، وفي هذه الأثناء قامت اضطرابات بسوريا
ضد الفرنسيين انعكست أحداثها على لبنان فقام دعاة الوحدة
العربية يطالبون من جديد بضم مدن الساحل اللبناني والبقاع
الى سوريا، ولكن المعاهدة التي كان يطالب بها لبنان
بالاضافة الى سوريا لتحل مكان الانتداب الفرنسي قد عقدت
فعلا ً. ومن ضمن النقاط التي تضمنته المعاهدة اللبنانية
الفرنسية، هي المادة "6و6" مكرر التي تقضي بتمثيل مختلف
الطوائف في لبنان تمثيلا ً عادلا ً في المناصب العليا
والادارات المهمة وغيرها. وظلت هذه المعاهدة يعمل بها
لبنان حتى اليوم، وقد كانت من احدى قواعد الحكم الأساسية
في لبنان، وقد اسندت رئاسة الوزراء الى مسلم سني، وكان خير
الدين الأحدب اول رئيس لوزراء لبنان، ومنذ ذلك الحين تكرست
رئاسة الوزراء للمسلمين السنيين.
وبدأ لبنان حياته الديمقراطية وانتخب الشعب نوابا ً. وأخذت
التكتلات النيابية والتجمعات الشعبية في أشد التزاحم، فقام
اميل اده ينظم كتلة دعاها "الكتلة الوطنية" تنافسها الكتلة
الدستورية ويتزعمها بشارة الخوري والمحامي كميل شمعون. أما
الكتلة الوطنية فكانت متحفظة بالنسبة للمطالبة باستقلال
لبنان، "خوفا ً من اضمحلاله في محيطه الاسلامي". أما
الكتلة الدستورية، فكانت تصر على نيل لبنان الاستقلال
الناجز، واتخذت شعارا ً لها "بأن لبنان كدولة ذات شخصية
مميزة في المجموعة العربية".
أخذ هذا الشعار يخفف من غلاة المطالبين بالوحدة العربية،
اذ بدأوا يتحدثون عن لبنان ذات كيان مستقل "وان لبنان
وشعبه جزء من الأمة العربية لا يتجزأ، وان لبنان خصائص
مميزة" فوجدت الكتلة الدستورية، بهذا الاعتراف الاسلامي
الذي صاغه الأخوان كاظم وتقي الدين الصلح، مخرجا ً سياسيا
ً، فتبناه نسيبهما رياض الصلح الذي كان رئيسا ً للوزراء
يومذاك.
وكان هذا المنطلق خطوة مهمة، ومرتكزا ً أساسيا ً للتفاهم
الوطني بين جميع الفئات اللبنانية، فتبناه الجميع وعلى هذا
الأثر تم التفاهم بين جميع الفرقاء من مسيحيين ومسلمين،
فأعلن الميثاق الوطني الذي أصبح نقطة التقاء بين مختلف
العائلات الروحية في لبنان!!
هذا هو الظاهر في تلك الحركة المدعوة استقلالية. أما
الواقع فانها كانت مظهرا ً حديثا ً من مظاهر العراك
المتأصل منذ مائة وخمسين سنة بين السياسة الفرنسية
والسياسة الانكليزية في الشرق الأدنى. فكانت انتخابات
السنة 1943 انتصارا ً صريحا ً للانكليز على الفرنسيين.
وكان ما سمي "بالاستقلال"، في الواقع، نقلا ً للبنان من
الانتداب الفرنسي الى الانتداب الانكليزي بشكله العربي.
وهكذا نال لبنان "استقلاله" التام الناجز. وفي عام 1946 تم
جلاء آخر جندي فرنسي عن لبنان. وفي عام 1945 وقع لبنان
اتفاق الاسكندرية الذي تم على أثره انشاء الجامعة العربية،
واعتبر لبنان عضوا ً مؤسسا ً في الجامعة. فأعلنت دول
الجامعة ثقتها بسياسة لبنان العامة، كما تعهدت باحترام
سيادته وكيانه ضمن حدوده القائمة. وفي العام ذاته وقع
لبنان أيضا ً ميثاق الأمم المتحدة كعضو مؤسس فيها !!
أخذ لبنان يقطف ثمار "استقلاله"، وأجمل مواسمه، كان اتحاد
شعبه الذي انتقل من وضع اجتماعي يشبه "الكونفدرالية" الى
تعايش ووحدة أخوية. فتطورت الحياة لتشمل جميع الميادين،
الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولكن في سنة
1958 أي بعد مضي 15 سنة على استقلال لبنان، وكان ذلك في
عهد الرئيس كميل شمعون، وقبل نهاية ولايته بسنتين. اندلعت
ثورة مسلحة شديدة العنف، وتساءلت الفئة الصامتة من الشعب..
عن سبب اندلاع تلك الثورة. فكان جواب الثائرين: بأن الرئيس
شمعون ينوي تمديد ولايته، فهبوا يمنعونه!!
هل كانت أسباب ثورة 1958 - حقا ً لمنع رئيس الجمهورية من
تمديد ولايته؟! أم كانت هناك أسباب أخرى؟! لنستعرض الأحداث
فقد تكشف بعض الملابسات:
في عام 1953 قام جمال عبد الناصر، بثورة في مصر، أطاحت
بالنظام الملكي، وخلع الملك فاروق عن العرش، فترك مصر الى
أوروبا، وبدأ الزعيم المصري الجديد، يحاول بسط نفوذه على
جميع البلاد العربية، محاولا ً أن يحقق وحدة عربية شاملة.
فأثارت هذه الأحداث ردات فعل في لبنان، وبخاصة أن عبد
الناصر، كان قد استقطب شعبية قوية بالاضافة الى ذلك، كان
عبد الحميد غالب سفيرا ً لمصر في لبنان عرف بالدهاء
السياسي، وتدبير المخططات السياسية. فكان لوجوده في بيروت،
تأثير كبير وفعال، فأيقظت هذه الأحداث الحنين في نفوس دعاة
الوحدة العربية التي كانت رواسبها قابعة في الأذهان منذ أن
نودي بها عهد المتصرفية - الى الانتداب الفرنسي - الى يوم
استقلال لبنان!!
من ثم أخذ الزعماء المسلمون، يحاولون احراج، رئيس
الجمهورية بمطاليب صعبة، أي أن يقطع العلاقات الدبلوماسية
مع فرنسا وبريطانيا، استنكارا ً للعدوان الثلاثي الذي شنته
الدولتان بالاشتراك مع اسرائيل على مصر، بسبب تأميم قناة
السويس، بالاضافة الى ذلك ففي عام 1958 أي قبل الأحداث
اللبنانية بقليل، أبرمت وحدة بين مصر وسوريا، وكان ذلك في
عهد الرئيس السوري شكري القوتلي، مما سهل التدخل المباشر
في لبنان من الحدود اللبنانية السورية حيث قتل في بادىء
الأمر عدد من رجال الأمن والجمارك اللبنانيين في"المصنع"
بين حدود لبنان وسوريا. وبعد ذلك أصبح هجوم الثوار من
الحدود السورية علنا ً... ولم يقم الجيش اللبناني، بواجبه
في الدفاع عن الحدود. وأخذت هذه التدخلات تهدد كيان
واستقلال هذا الوطن الصغير. فقام الرئيس كميل شمعون، وطلب
حماية من الدول الأجنبية، وبخاصة من اميركا، بموجب قرار
"ايزنهاور" الذي كان الكونغرس الأميركي قد أقره في عام
1957 الذي يقضي بأن تضع الولايات المتحدة الأميركية قواتها
تحت تصرف أي دولة في الشرق الأوسط، اذا تعرضت لأي عدوان أو
تدخل شيوعي. وهكذا استفادت الحكومة اللبنانية من مبدأ
ايزنهاور.
ولكن وصول الأسطول الأميركي في 14 تموز 1958، لم يوقف
تدهور الحالة الأمنية، واتساع رقعة الثورة، انما اوقف
التدخل الخارجي نسبيا ً من الحدود السورية. ولكن وجه
الثورة انقلب الى وجه جديد، أي مطالبة رئيس الجمهورية
بالتنحي وترك الحكم قبل نهاية ولايته، في حين كانت الحكومة
التي يترأسها المغفور له سامي الصلح، قد صرحت رسميا ً بأن
رئيس الجمهورية لن يجدد ولايته!! وامام الحاح المعارضين
للرئيس شمعون، ظل هو متمسكا ً بنص الدستور ولم يترك الحكم
حتى آخر يوم من ولايته. وفي 31 تموز من عام 1958 اجتمع
المجلس النيابي، وانتخب اللواء فؤاد شهاب رئيسا ً
للجمهورية اللبنانية، وفي 23 ايلول من ذاك العام تسلم
مقاليد الحكم.
اطماعنا، حقدنا، جهالتنا، غرورنا، وضعفنا يسمح للقريب.. او
للبعيد.. للملاك.. او للشيطان بأن يسمموا قلوبنا بشهوة
مصالحهم!!
نحن دائما ً نقدم قرابين دم في هيكلنا من أجل سلطان
غيرنا.. متى نرفع الغشاء من أعيننا؟! متى نحطم قسوة
قلوبنا؟! لماذا لا نصم آذاننا عن الأصوات الدخيلة؟! فلا
نسمع الا أهازيج المحبة تنطلق من جبالنا وشواطئنا، فنزرع
الكون أمجادا ً لتعود وتستيقظ أمجادنا الغابرة!!
هل كل ما تقترفه ايدينا من موت وفناء، هو من اجل الوطنية؟!
كما ندعي؟ فبئس الوطنية اذا كانت سببا ً في تباعد
المواطنين، سببا ً في سلخ الابن عن صدر أمه، سببا ً في
ترمل النساء وتيتم الأطفال وتدمير لبنان!!
لماذا نفتش عن الموت؟! لماذا لا نبني للحياة؟!! هل ضاقت
الأرض بساكنيها؟! هل ضاق لبنان بأهله؟! فوطننا الصغير يتسع
قلبه لنا جميعا ً، والعالم كله لا يتسع لمبغضين اثنين!!!
هل حرمنا لبنان من أي نعمة في الكون؟! الحرية، كنا نترع
كؤوسها ملآنة!! البحبوحة؟! كنا نموج بخيراتها!! ممارسة
دياناتنا؟! فالكنائس والجوامع تتعانق في أرضنا، وترتفع
فيها أصوات المؤمنين تمجد الاله الواحد الأحد، ونحن جعلناه
ربين.. ما اكفرنا؟! ما أقسانا؟! ما أجهلنا؟!
ماذا أفاد لبنان من قرابين الدم التي تراق فوق أرضه؟! بل
أفاد اعداء لبنان كانوا من كانوا!! مساكين نحن!!
لست أدري اذا كان قدر لبنان هو أن يدفع كل فترة من عمره
جزية من الدم؟! اذ لا يكاد ينهض من تحت الأنقاض، ويفتح
رئتيه ليتنفس فترة هدوء وازدهار حتى يتلقى ضربة تعيده
عشرات السنين الى الوراء، وتهدم كل ما بناه، كأن بنيانه
مرتكزا ً على أسس من رمال، بل قل من "ورق" فتنهار صروحه
أمام أي عاصفة تهب في محيطه.. أو فوق أرضه، كأن هذا الوطن
وجد ليكون محطة للآلام والدموع!!
شهر نيسان، عرس الجمال في لبنان، تتبارى في أيامه ولياليه
الرياحين والورود، فتختال وتتزاحم فوق روابيه موزعة اريجها
على كل من يبست نفسه، واشتقاق الجمال، وفجأة في منتصف
العرس، وبالتحديد نهار الأحد الواقع في الثالث عشر من
نيسان عام 1975 انقلب عرس الورود الى مأتم.. كأن شيطانا ً
رجيما ً اشتعل قلبه حقدا ً وغيرة من جمال العرس، ففجر
المكان، وانفجرت الحرب!! وتجر فيما بعد كل شيء!!
بدت بداية حرب 1975 للوهلة الأولى كأنها قنبلة سقطت سهوا ً
من مقاتل وانفجرت فوق ارضنا قضاء وقدرا ً!! ولكن الأحداث
كشفت الأقنعة عن كل شيء، وبدا الدوي الرهيب انه قنبلة
موقوتة مجهزة للتفجير في الوقت المعد لها.. وكانت تباشير
انفجارها بفترة وجيزة، قد لاحت في مقتل النائب السابق
معروف سعد في صيدا وما رافق ذلك من تظاهرات واتهامات
وعنف!! فهكذا بدأت ثورة 1958 بمقتل الصحافي نسيب المتني
لتتابع الثورة اشتعالها وتحرق بلهبها الأبرياء!!
تابعت حرب 1975 سيرها في الطريق المرسوم لها.. وبدأ
الأبرياء يتساقطون، والخوف والبؤس يتربصان بالجميع،
فالقذائف من افتك ما ابتكرت مصانع الأسلحة في العالم، تمطر
سماء لبنان، والدمار يعم كل شبر من ارضنا المعطاء!! وهب
اعصار الحقد يجتاح هذا الوطن الآمن، ومع كل هذه الفواجع،
كنا نحن الشعب نظن انهما يوما ً غضب، وتغرب عنا الأعاصير،
ولكن المأساة ظلت تتابع طريقها على أفظع وجه. فذبح الانسان
اصبح حلالا ً.. والقتل اصبح قانونا ً.. والتشويه في
الأنسان أصبح شرفاً.. والنهب اصبح وساماً... والتدمير أصبح
انتصارا ً.. والخيانة الوطنية اصبحت وطنية.. والحقيقة ضاعت
بين ازيز الرصاص وطلقات المدافع.. فتشردت مع المشردين
والمهجرين من قراهم وبيوتهم!!
هل هناك ترابط من الشبه بين ما حدث عام 1860 وما قبله،
وسنة 1958 وحرب السنتين 1975- 1976؟! وان تبدلت الأوجه وقد
تكون الأسباب نفسها او قد لا تكون!! وان استعملت الأسلحة
الحديثة" والميدانية التي لا تستعمل الا في المعارك
الحربية بين دولة ودولة"!!
ورحنا نتساءل نحن الشعب، لماذا يحدث كل هذا؟! كان الجواب:
ان الكتائب متهمة.. بانها تريد تصفية الفلسطينيين.. ولهذا
افتعلت حادثة "عين الرمانة" وقتلت الفلسطينيين العزل وهم
في "البوسطة"... ورحنا ننتظر الانتظار.. لنعرف الحقائق،
وعلى الرغم من تكتم التحقيق القضائي حول حادثة عين الرمانة
ومفتعليها.. تبين ان الفلسطينيين الذين غدر بهم، لم يكونوا
عزلا ً وان التحقيق قد اثبت ان الكتائب بريئة من التهمة
تماما ً. ومع براءة الكتائب ومعرفة المسؤولين عن الجريمة..
بتلك البراءة، ظلت الحرب تواصل سيرها بشراسة. اذا ً كانت
حادثة عين الرمانة ومقتل معروف سعد رأس فتيل أشعل.. من أصل
فتيل طويل.. لا يدري أحد متى ينتهي الا الذي اشعله!!!
أخذ الفلسطينيون يتصرفون في لبنان، من منطلقات ثورية التي
تتنافى مع مفاهيم الدولة الديمقراطية. ومنذ نكسة حرب 1967
بنوا فكرة بأن العودة الى فلسطين يجب ان تمر طريقها عبر
العواصم العربية.. وبدأوا ينفذون مخططاتهم من الأردن عام
1970 مستهدفين قلب نظام الحكم، واطاحة الملك حسين، لكنهم
فشلوا وخسروا ما يقارب ال 40 الف قتيل، ثم بدأت بعض
الأنظمة العربية تضيق عليهم وتحد من تحركاتهم، فوجدوا
لبنان واحة حرية، فلجأوا اليه فلولا ً وافرادا ً، وأخيرا ً
بدأ القادمون الجدد الى لبنان يتميزون بالطابع العسكري،
وهكذا بدأت الثورة الفلسطينية تثور.. في لبنان.. على حساب
سيادته وشعبه، وبدأت الكثافة الفلسطينية تفوق مئات الألوف
!!
وبدلا ً من أن يجعلوا من لبنان ملجأ، يحافظون عليه بعد
التضييق العربي وقفل جميع الموانيء العربية في وجههم الا
لبنان الذي ظل فاتحا ً لهم ذراعيه وموانئه. وعلى الرغم من
كل ذلك راحوا يتصرفون عكس ما تفرضه مفاهيم الأخوة
والضيافة!! فبدأوا يهدمون صروح أمنه، وذلك عندما لمسوا أن
الأموال العربية تغدق عليهم بسخاء.. فحتى يغطون عجزهم..
وشوائبهم بالحياة الرغيدة التي يعيشها قوادهم.. راحوا
ينطلقون من جنوب لبنان، يقومون بعمليات عسكرية هزيلة..
انما كانت دعاياتهم تصورها ملاحم بطولة.. ليثبتوا للرأي
العام العربي انهم يناضلون من أجل استرداد فلسطين، وان
الأموال العربية التي يتلقونها لا تذهب هدرا ً، وانهم
يؤلفون قوة عسكرية وثورية لا تقهر.. وكانت، كل هذه
التمثيليات.. تقع على حساب وطننا، حيث كانت اسرائيل تتخذها
ذريعة، فتشن هجماتها العسكرية على لبنان، وكان يتلقى
الضربة تلو الضربة امام قناعة الفسطينيين ان كل ما يقومون
به من عمليات عسكرية لا تجدي نفعا ً سوى مقتل العدد الكبير
من أفراد جنود جيش لبنان الرابض على الحدود الجنوبية على
ايدي الاسرائيليين. وظل لبنان صامتا ً، فوضعه الخاص.. لا
يسمح له الا بالصمت!!"علما ً أن الجميع يعرف ان استرداد
فلسطين هو مسؤولية ومشاركة عربية شاملة"!
وامام هذا القلق والتأرجح والاهتزاز الأمني، كانت اتفاقية
القاهرة عام 1969 في عهد الرئيس شارل حلو لتحدد نشاط
الثورة افلسطينية وتحركها وتحديد عناصرها على أرض لبنان،
ولكن اتفاقية القاهرة ظلت حبرا ً على ورق!! لاوانقسم
الفلسطينيون شيعا ً.. وخلايا.. ومنظمات متعددة الأسماء
ومتضاربة الأهداف.. هذا معتدل، وذاك متطرف، هذا مع ليبيا،
وذاك مع العراق، هذا يداهن لسوريا وذاك يصفق لمصر، وكانت
كل هذه التناقضات تفرز انواعا ً من الفوضى والتجاوزات في
لبنان، لا يمكن لأحد ان يتحملها سوى من كان مثل لبنان!!
واخذت الفوضى والكثافة الفلسطينية تهددان بصدام مع الجيش
اللبناني، وفعلا ً حصل هذا الصدام في عام 1973 لكن الضغط
العربي اوقف جيش لبنان في أن يتابع تصديه للفلسطينيين،
وهكذا ظل لبنان مهددا ً كأنه فوق بركان يغلي!!
وعلى الرغم من كل هذه التجاوزات، وهذه الفوضى، نسي لبنان
اساءت الفلسطينيين، وقبل رئيس جمهوريته سليمان فرنجية عام
1974 من أن يقف مدافعا ً عن القضية الفسطينية من على منبر
الأمم المتحدة، مما أثار غضب أميركا والصهيونية، واضطر
لبنان على أثر ذلك ان يسدد فواتير جديدة عالمية..
مع كل هذا لم يعترف الفلسطينيون بهذا الجميل للبنان، بل
زادوا في الفوضى والتجاوزات العلنية، وأخذوا يبسطون نفوذهم
على اللبنانيين، على اختلاف مذاهبهم، وأصبحوا دولة ضمن
الدولة اللبنانية، بل أصبحوا بمعداتهم الحربية الحدبثة
المتطورة يفوقون قدرة الدولة اللبنانية!! واخذوا يدققون
بالهويات، ويخطفون هذا ويسلبون ذاك. ويفرضون "خوة" على
المصانع والأحياء، وحولوا مخيماتهم الى حصون للفارين من
وجه العدالة اللبنانية، بالاضافة الى المجرمين الدوليين!!
وعندما لاحت
بوادر الحل
السلمي،
وبخاصة بعد
اتفاق سيناء،
الذي وقعته
مصر واسرائيل،
هب الفلسطينيون
يفجرون الوضع
في لبنان
دون أي رادع
يوقفهم عن
تخريب وهدم
هذا الوطن
المضياف.
ومما زاد
في اجرامهم،
أن مكرهم
كان عظيما
ً اذ استطاعوا
جذب الشارع
الاسلامي
الى جانبهم
بعدما عبأوة
اعلاميا
ً، فتلاحم
معهم وأصبح
ملكيا ً أكثر
من الملك..
فانساق وراءهم،
وأصبح سهلا
ً أن ينالوا
تأييد الزعماء
المسلمين
لهم، والا
حاربوهم
بسلاحهم،
أي بقاعدتهم
الشعبية!!
ومما ضاعف
قوة وفوضى
الفلسطينيين،
تحالفهم
أيضا ً مع
اليسار المحلي
واليسار
الدولي ومع
كل من يهوى
المبادىء
الثورية!!!
واول هدف
جال في رأس
قائمتهم،
تفكيك الكيان
اللبناني،
وزعزعة استقلاله،
وتبديل وجهه
الديمقراطي،
الى وجه ثوري.
-
تابع -