Afqa Place of God

"أفقا"، مقر الاله "ايل" – جذور المسيحية في لبنلن لأنطوان حرب

Antoine Emile Khoury Harb
The Maronites - History and Constants

لعل أبرز شاهد على نوعية العلاقة التي تصورها اللبنانيون القدامى، والتي تربط بين الههم الأكبر "ايل". خالق الخلائق، والههم المحبوب الشاب "أدون". رمز الخصب والحياة، والالهة "الأم الكلية" عشتروت"، هو ما نلمسه في "أفقا"، التي تعني في اللغة الفينيقية "المياه المتدفقة". والواقعة في أعالي بلاد جبيل:

في "أفقا" مغارة صخرية كبيرة، اعتبرها اللبنانيون مقرا ً للاله "ايل". من هذه المغارة تتدفق مياه غزيرة، تشكل نهرا ً من أغزر أنهار لبنان، دعاه اللبنانيون باسم الاله "أدون". وعلى بعد أمتار قليلة من مغارة "أفقا"، بنى اللبنانيون معبدا ً ضخما ً للالهة "عشتروت" فوق ينبوع، ينبثق من جوف دهليز مقبب عند قاعدة المعبد. وتلتقي مياه هذا الينبوع بالمياه المتدفقة من مغارة "ايل" لتشكل بحيرة صغيرة، لا تزال موجودة حتى اليوم، كان المتعبدون يلقون فيها القرابين والأضاحي.

هكذا، نشهد في أفقا تجسيدا ً واقعيا ً طبيعيا ً للعلاقة بين ثلاثي العقيدة الدينية اللبنانية القديمة، حيث اله الخصب والحياة "أدون" المتمثل بالمياه الدافقة، ينبثق في آن، من أعماق مغارة "ايل" ومن جوف معبد "عشتروت"، انبثاق "الابن" الذي هو عطية "الأب" و"الأم". الثنائي المتلازم، وفيض كيانهما ووجودهما.

في مطلع القرن الرابع الميلادي، أمر الامبراطور قسطنطين الكبير (306-337) بهدم معبد "عشتروت"، الذي تحول فيما بعد، بايعاز من القديس "يوحنا الذهبي الفم" (347-407) الى كنيسة بيزنطية مكرسة للسيدة العذراء مريم. لكن الزلازل التي توالت على لبنان، قوضت المعبد وأحالته ركاما ً.

على الرغم من خراب معبد "أفقا" وتبدد الأساطير، فان رواسب من طقوس العبادة القديمة لا تزال عالقة في عقائد اللبنانيين وتقاليدهم. فسكان منطقة "أفقا"، شيعة وموارنة، لا يزالون يكرمون صورة للعذراء، يدعونها باسم "السيدة أفقا" أو "سيدة زهرة "، داخل حنية مقوسة فوق الدهليز المقبب الذي يشكل قسما ً من قاعدة معبد "عشتروت". ومن عاداتهم أن يضيئوا الشموع في داخل الحنية ويعلقوا على أغصان شجرة نبتت في جدار المعبد، خرقا ً من ثيابهم الداخلية بمثابة نذور، لكي يرزقوا بالبنين. وتعتبر ظاهرة تعليق النذور على الأشجار بالقرب من المزارات الدينية، من العادات الشائعة في أنحاء عدة من لبنان وعند مختلف الطوائف، وهي تشير، في ما تشير، الى تكريم اللبنانيين الشجرة التي هي رمز الخصب والحياة. وما "شجرة الميلاد"، في العصور المتأخرة، سوى احدى دلالات ارتباط الحياة بالاخضرار، وبالحياة المتجددة كل سنة مع ميلاد السيد المسيح.

"بلور" اللبنانيون القدامى عقيدة التثليت، المتجسدة ب "ايل" و"أدون" و"عشتروت". وأبرزوها في تصميم أبنيتهم الدينية، أي في معابدهم المشيدة على أرضهم. وأقدم هذه المعابد ذاك الذي كشف عنه العالم موريس دونان في مدينة جبيل، والعائد الى أوائل الألف الثالث ق.م. وما يميز هذا المعبد هو وجود ثلاث غرف متلاصقة، تشكل معا ً قدس أقداسه، ولا شك في أن هذه الغرف الثلاث كانت مخصصة لعبادة الثالوث اللبناني القديم، ولا تزال أساساتها والمداميك السفلى من جدرانها، تشكل معالم محددة وواضحة لتصميم المعبد. وتظهر الى جانب المعبد بقايا من جوانب بركة مقدسة كان المتعبدون يغتسلون ويتبركون بمياها.

أما أعظم المعابد اللبنانية القديمة وأشهرها، والتي تبرز فيها عقيدة التثليث بكل وضوح، فهي معابد "بعلبك"، "مدينة البعل"، في سهل البقاع. فهناك ثلاثة معابد ذات هيكلية واحدة: معبد البعل الأكبر "ايل" (يقابله "جوبيتر" الروماني)، ومعبد الالهة الأم "عشتروت" (تقابلها "فينوس عند الرومان)، ومعبد الاله الابن "أدون" (يقابله "باخوس" الروماني). وفي هذه الهيكلية الهندسية نفسها يدخل أيضا ً مبدأ التثليث، اذ ان أدراج المداخل الرئيسة الثلاثة لهذه المعابد يتألف كل منها من ثلاثة أقسام، والأبواب المؤدية الى الساحات الأمامية كذلك هي ثلاثة أبواب.

وكان يحيط بقدس أقداس المعبد الكبير 54 عمودا ً ضخما ً يبلغ علو كل منها، من أسفل القاعدة الى رأس التاج، حوالى 21 مترا ً، ويبلغ قطره عند القاعدة مترين و 15 سنتم. وكل عمود منها يتألف من ثلاثة أقسام، وفي ذلك دلالة رمزية أخرى واضحة على فكرة التثليث. وقد دمرت الزلازل، التي تعاقبت على لبنان، المعبد الكبير وأسقطت أعمدته الضخمة، وآخرها زلزال سنة 1759 الذي هدم ثلاثة منها، فلم يسلم من الأعمدة الأربعة والخمسين الا الأعمدة الستة الشهيرة الباقية الى يومنا هذا.

في صدر قاعدة المعبد الكبير "ثلاثة حجارة"، مقصوبة ومتوازية، يبلغ طول أحدها 15و19م بعرض 43و4م وعلو 65و3م. وهي مرفوعة فوق صفوف عدة من الحجارة الضخمة. وتعتبر هذه الحجارة الثلاثة أكبر حجارة بنائية في العالم ويتجاوز وزن كل واحد منها الألف طن تقريبا ً. وفي العهد البيزنطي، نظرا ً الى ما كان يعتري المشاهد من دهشة وحيرة عند رؤيته هذه الحجارة البنائية الهائلة الحجم والوزن، سمي المعبد الكبير باسم "معبد الحجارة الثلاثة"، وبه سميت المدينة كذلك وللسبب عينه.

من المعابد الأخرى في لبنان والتي تتجلى في بنائها عقيدة التثليث، معبد "تمنين الفوقا" الذي يدعوه أبناء المنطقة ب "الجب". ويعود سبب هذه التسمية الى أن المعبد بني فوق نبع مياه غزير يتفجر من الأرض، في أسفل منحدر جبلي يطل على البقاع. وكانت المياه تخرج، حتى وقت قريب، من جوف المعبد عبر ثلاث فتحات عند عتبة المدخل. وفي داخل هذا المعبد الصغير ثلاث حنايا، واحدة في الجدار الأوسط والاثنتان الأخريان في الجدارين الجانبيين، كانت توضع فيها، على الأرجح، تماثيل الثالوث اللبناني القديم، "ايل"، و"عشتروت" و"أدون"، بحيث يبدو هذا الثالوث متحدا ً كأنه ينبوع الحياة ومصدر الخصب للطبيعة وللانسان.

اضافة الى المعابد التي سبق ذكرها والتي تبرز في تصاميمها عقيدة التثليث التي اعتنقها لبنانيو العصور القديمة، هناك عشرات المعابد الأخرى والمذابح التي تنتشر في مختلف أنحاء لبنان والتي لا تزال آثارها بارزة حتى اليوم، وهي تشهد على شدة تدين شعبه. فمعظم قمم جبال لبنان تكللها هياكل، ولكل قرية من قراه معبدها. ناهيك عن المعابد التي شيدت على أنقاضها كنائس أو مقامات دينية. ويقول العلامة الفرنسي ارنست رينان في هذا المجال: "ما من بلد في العالم كهذا البلد، يصح فيه القول أن البشر تعاقبوا منذ البدء على الصلاة في الأمكنة الواحدة ذاتها". ويعتبر علماء الآثار لبنان، بالنسبة الى مساحته، من أكثف بلدان العالم بالمعابد.