النصيرية
- ليس أنصارية كما يدعوهم بعض الفرنج - فرقة اخرى من
الباطنية وهم قوم يسكنون طرابلس الشام وجبل عكار والجبال
المجاورة للاذقية المعروفة باسمهم. ومنهم طائفة في دمشق
والصالحية. وهذه الشيعة تشبه الدروز في حرصها على مذهبها
فتحجب مذهبها على غير اتباعها.
وأصل هذه الشيعة قديم. قال ابو الفداء في تقويم البلدان
نقلا ً عن ابن سعيد "ان النصيرية ينسبون الى نصير مولى علي
ابن ابي طالب" فان صح هذا الرأي وجب القول بان اصلهم يرقى
الى اوائل الاسلام. واغرب من هذا ما رواه يلينيوس.
الروماني المتوفى سنة 79 للمسيح اذ قال في تاريخه
الطبيعي"ان قوما ً يدعون نصريين يسكنون جبل برجيلوس يفصل
بلادهم نهر العاصي عن افامية" فالنصريون كالنصيريين وجبل
برجيلوس هو جبل النصيرية يفصلهم نهر العاصي عن افامية اي
قلعة المضيق. فيلوح من هذا القول ان النصيريين سبقوا
الاسلام بمئتين من السنين وانهم عنصر وطني عابد للاوثان.
اما الرأي الغالب في عهدنا عند العلماء ان النصيريين
ينسبون الى محمد بن نصير احد اتباع حسن العسكري الامام
العلوي المتوفى سنة 260 ه (873م). وقد ذكره ابن العبري في
تاريخه السرياني المدني فقال عنه انه ظهر في الكوفة. ووصفه
الكتبة المسلمون باحد غلاة الشيعة. ومنهم من يدعوه بنصير
النمري يقولون انه كان كثير الصوم والصلاة من الاولياء
فاختار اثني عشر رسولا ً ينذرون بتعليمه فلما شاع امره
ألقي في السجن بامر السلطان ففر من حبسه وادعى ان ملاكا ً
من السماء أطلقه فازداد تحمسا ً في نشر مذهبه وفي الدعوة
الى ألوهية علي بن ابي طالب فوافقه قوم وتحرى رجال بث
آرائه اخصهم الحسين بن حمدان الخصيبي الذي تصرف بتعاليم
النصيرية ورتبها على صورة معلومة ثم اذاعها في الشرق
وخصوصا ً في شمالي سورية وجبالها.
والنصيرية فرق منهم الشمالية يسكنون شمال جبلهم ويدعون
بالشمسية ايضا ً لانهم يعبدون الشمس. ومنهم الكلازية او
القمرية يعبدون القمر ومنهم الكلبية يعبدون الحيوان
والغيبية يعبدون الهواء. وكلهم يضمرون تحت هذه الرموز
عبادة علي بن ابي طالب. ويقال ان بينهم من يبيح المنكر
ويأتونه في خلواتهم والله اعلم بصحة هذا الامر الشائع في
حقهم.
وللنصيرية ثلث رتب لشيوخهم: رتبة الامام وهي ارفعها. ورتبة
النقيب. ورتبة النجيب: يتولون صلواتهم واعيادهم
واجتماعاتهم. وعندهم الخاصة والعامة فالخاصة بمنزلة العقال
عند الدروز والعامة كالجهال لكنهم لا يطلعون النساء على
اسرارهم بل يعتبرونهن كالحيوانات ويزعمون ان لا نفس لهن
فلا يجازين بثواب ولا عقاب.
ويشبهون الدروز في قولهم بتناسخ الارواح التي بعد موت
اصحابها تحل في بشر او في حيوان على حسب درجاتها من البر
والصلاح او الشر والطلاح. وارواح النصيرية لا تزال تتناقل
في المواليد الى ان تصفو من كدرها فاذا بلغت كمالها تحولت
الى احد نجوم السماء.
ومما لاينكر ان النصيرية استعاروا اشياء كثيرة من
النصرانية ما يدل على ان هذا الدين شاع بينهم قديما ً فمن
ذلك ما يدعونه بالقداس يقرب فيه امامهم الخبز والخمر.
ويكرمون اعياد النصارى كميلاد السيد المسيح وعيد الغطاس
وعيد البشارة والشعانين والعنصرة وعيد بعض القديسين كيوحنا
المعمدان ويوحنا فم الذهب وبربارة الشهيدة ويسمون اولادهم
باسماء النصارى كمتى وجبرائيل وهيلانة الخ. على انهم كانوا
معادين للصليبيين لما نزلوا سواحل الشام واستولى على
جبالهم القمص ريموند صنجيل فبقيت في حكمهم الى ان تملكها
صلاح الدين الايوبي.
وليس للنصيرية معابد مثل المسلمين والنصارى بل لهم خلوات
صغيرة مقبية في اطراف قراهم او يجتمعون في بيوت معلومة لهم.
والكتبة المسلمون في عهدنا يعدونهم كملحدين فدونك ما كتبه
عنهم جودت باشا في تاريخه (طبعة بيروت ص 372):
"اما الحادهم (اي النصيرية) وزعمهم الباطل فما يتعلق
بالالوهية والنبوة فلا يشبه عقيدة امة من الامم مطلقا ً.
وذلك انهم يقولون بالالوهية لهابيل ومنه حلت في شيت. وان
آدم كان نبيا ً كريما ً وان الالوهية انتقلت بعد ذلك الى
اسماعيل والنبوة الى ابراهيم ثم انتقلت الى موسى ثم الى
عيسى ثم الى سيدنا محمد بن عبد الله وبالمثل انتقلت
الالوهية الى هارون ثم الى شمعون المعروف بين النصارى
ببطرس ثم الى علي بن ابي طالب واستقرت فيه الى ان التف
بالحلة وصعد الى السماء وحل في الشمس وانه موجود في الشمس
الى الآن وان الكواكب التي في السماء هي ارواح كبار عقال
النصيرية فلذلك يسجدون للشمس حين طلوعها وغروبها ويحترمون
الكواكب وفي ادعيتهم يطلبون حاجاتهم من العلي الاعلى
بالتوسل بحرمة الكواكب الزاهرة. ويدعون المقداد بن ابي
الاسود احد الصحابة الكرام (رضي الله عنهم) برب الناس
ويقولون ان عليا ً خلق محمدا ً وان محمدا ً خلق سلمان
الفارسي وان سلمان خلق المقداد وان المقداد خلق سائر
العباد. وليس لهم معابد كالجوامع والكنائس بل يجتمعون كل
وقت في بيوتهم وتأتي اليهم العقال والمشايخ ويتلون عليهم
القصص والخرافات والاباطيل ويقولون عن ذلك يوم عيد. ولهم
محل مخصوص محفوظ في بيوتهم لجمعية هذه الاعياد لا يدخلها
غيرهم ولا يقف على امرها احد وعلى الفرض لو دخلها غيرهم
فانهم يسعون في قتله واخفائه من دون ان يشعر به احد ولهم
عيد ميلاد وعيد رأس السنة مخصوص بهم واما العيد الاكبر
عندهم فهو الرابع من نيسان ويدعونه بالنيروز".
"والحاصل انهم يشبهون الدروز في جهات عديدة ويشبهون المجوس
بعبادتهم الشمس وتعظيمهم وتملقهم للكواكب. ويشبهون النصارى
في بعض اشياء كتعظيمهم لبطرس واستعمالهم الخمر في الجمعيات
الدينية وتحليل شربها وموافقتهم لهم في بعض الاعياد.
ويشبهون الروافض في غلوهم في تعظيم حضرة علي رضي الله عند
والأممة الاثني عشر واما في حقيقة الامر فان احوالهم تخالف
الجميع واطوارهم خارجة عن اطوار كافة الملل".
والنصيرية يرتزقون بالفلاحة. وعددهم اليوم في جبالهم
130000 يضاف اليهم 20000 في جهات آدنة ومرسين: ومركزهم في
مصياد فتحوا حصنها سنة 1140م. والنصيرية هؤلاء غير
الاسماعيلية فان الاسماعيلية فرقة ثالثة من الباطنيين الا
ان بينهم وبين النصيرية عداوة ً كبيرة. وهم ينتسبون الى
محمد بن اسماعيل بن جعفر الصديق وهو السابع من الأممة
العلوية. وقد استفحل امرهم في القرن التاسع للميلاد بمساعي
زعيمهم عبد الله بن ميمون. ولما حاربتهم الجيوش الاسلامية
في فارس والعراق فر قسم منهم الى شمالي سورية فسكنوا سلمية
قريبا ً من حماة. ثم زاحموا النصيرين في جبالهم ففتحوا
بعضها وعرف زعماؤهم عند الفرنج بشيوخ الجبل ودعا الفرنج
أنصارهم بالحشاشين لا كلهم الحشيشة المسكرة ومنها اشتقوا
اللفظة الفرنسوية (Assassins ) ومعناها القاتلون الناحرون
لكثرة من اغتالوهم من الملوك والامراء باغراء زعمائهم. على
اننا لا نخوض في تعريف ديانتهم اذ يسكنون خارجا ً عن لبنان.
17 اليهود وديانتهم
في لبنان فل قليل من اليهود في اقليم الشوف الا انهم في
سواحل الشام اوفر عددا ً لا سيما في بيروت حيث يبلغون نحو
1500 فيهم التجار المعدودون. ولليهود جمعية كبيرة مركزها
في لندن تهتم باليهود أنشئت سنة 1896 بهمة الدكتور النمسوي
اليهودي هرتسل فشاعت تحت اسم الصهيونية لان اخص من سعى
بانشائها جمعية صهيون في النمسا. وكانت الغاية من تأسيسها
ايجاد وطن للشعب اليهودي في فلسطين. ومذ ذاك الحين تعددت
المؤتمرات وتوفرت الوسائل لتوجيه اليهود من كل البلاد الى
فلسطين فاقتنوا فيها الاملاك وأنشأوا المستعمرات حتى كادت
فلسطين تعد كملكهم الخاص ولهم في ولاية بيروت مستعمرتهم
الشهيرة في حيفا.
اما الديانة اليهودية فمعروفة من التوراة وشرائع موسى كليم
الله. لكن كثيرا ً من السنن الموسوية قد أبطلت منذ خراب
هيكل اورشليم في زمن الرومان فلا مدينة لهم تجمعهم فباتوا
متفرقين بين الامم. وانما لهم في كل مدينة كنيس لصلواتهم
وفرائضهم برئسها ربانيون يعرفون في الشرق بالحاخامين. ولا
يجوز لهم تقدمة الضحايا في هذه الاماكن طبقا ً لاوامر موسى
النبي الذي حصر بامر الله الضحايا والقرابين في هيكل
اورشليم.
ولليهود ما عدا الشريعة الموسوية وكتاب التوراة كتب اخرى
وضعها بعض أممتهم بعد المسيح كالتلموذ والمشنى والجمارة
جمعوا فيها اقوال كبارهم فبنوا عليها سننا ً وآدابا ً
يلزمونها كشرائع موسى والانبياء اخذوا كثيرا ً منها عن
تقاليد الفريسيين التي اشار اليها السيد المسيح في الانجيل
وكشف عن ضعف اساسها.
واليهود اليوم في المعمور نحو 12000000 منهم في الدولة
العلية نحو 300000 وهم كما لا يخفى من عنصر سامي محض لم
يختلط بعنصر آخر لحرص اليهود على الزواج في قومهم. ولغتهم
القديمة العبرانية. اما لغتهم الحديثة فمزيج من الكلدانية
والعبرانية تدعى بالسريانية الفلسطينية في زمن المسيح ثم
كثر فيها الدخيل من ألسنة غيرها حسب البلاد التي سكنوها
كالعربية في البلاد الشرقية والالمانية او الروسية في
المانيا وروسيا. واليهود عدة اقسام اخصها السفرديم
والاشكنازيم فالسفرديم هم من سلالة اليهود الاسبانيين
والبرتغاليين الذين ابعدتهم الملكة ايزابيل من اسبانية في
القرن الخامس عشر وهم يتكلمون غالبا ً بالعربية او
بالاسبانية. اما الاشكنازيم فاصلهم من روسيا والنمسا
والمانيا والمجر وهولندة يتكلمون باللغة الالمانية الدارجة
المختلطة بعدة الفاظ دخيلة. وهم يقسمون الى يروشيم (اي
فريسيين) وخاسيديم وفرق اخرى. هذا فضلا ً عن السمرة الذين
بقي منهم جيل قليل في نابلس ولا يقبلون من التوراة غير
اسفار موسى الخمسة عندهم منها نسخة قديمة على رق سبقت عهد
المسيح. والسمرة لا يوافقون اليهود في حقيقة قيامة الاجساد.
الاسلام
هو الاقرار باللسان والتصديق بالجنان بان ما جاء به الرسول
الاعظم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حق وصدق واركان
العقيدة الاسلامية ستة وهي الايمان بالله تعالى وبملائكته
وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر والقضاء وقد بني الاسلام
على خمس: شهادة ان لا اله الا الله وان محمدا ً عبده
ورسوله والصوم والصلاة والحج والزكاة. وان دين الاسلام هو
دين التوحيد ومستند على الحق والحقيقة والذي جاء به هو
خاتم الانبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام ويعتقد المسلمون
بانه سبحانه وتعالى متصف بصفات الكمال.
ان القرآن المبين الجامع لاوامر الحق ونواهيه وسائر حقائقه
منزل من طرف الرحمن على الشارع الاعظم سيدنا محمد صلى الله
عليه وسلم. وانه اشرف الكتب السماوية وناسخ لها وحكمه باق
الى يوم القيامة وهو من اعظم المعجزات لبلوغه في الفصاحة
والبلاغة حدا ً خرج عن طوق البشر. ان آمال الرسول الاعظم
وغاياته في دعوته الى الحق والحقيقة ومكارم الاخلاق
والفضائل البشرية التي ظهرت في اجتهاده وتبليغه في ربع قرن
تتظاهر للعيان من قوله تعالى:
لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم
بالمؤمنين رؤف رحيم.
ويعتقد المسلمون بان الغاية في هذا الدين هي السعادة
والسلامة في الدنيا والآخرة. وان ما أمرهم به الحق من
العبادات تضمن لهم مقاصد عالية في الحاضر والاستقبال من
سلامة الحال واطمئنان النفس.
الاسلام يعرف المكلف به وظائفه امام نفسه وخالقه وابناء
جنسه. ان ما انطوى عليه الاسلام من الحرية الدينية هو
قانون اجتماعي مهم جدا ً.
قال الله تعالى: وان تولوا فانما عليك البلاغ والله بصير
بالعباد.
وما شاكلها من الآيات الكريمة يتضح منها جليا ً مقدار بعد
الاسلام عن الجبر والاكراه. وتتأكد حرية النفس الشخصية
وقدر اهميتها من سائر الآيات القرآنية ايضا ً كآية: وان
ليس للانسان الا ما سعى.
هل لا تفهم حقيقة المساواة الاجتماعية في هذا العصر من
قوله تعالى: يا ايها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء
بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ان لا تعدلوا اعدلوا هو
اقرب للتقوى.
أما قوله تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا
الصالحات ليستخلفنهم في الارض.
فهو جامع لجميع القوانين الاخلاقية في الهيئة الاجتماعية.
ان القرآن العظيم الذي بنيت عليه الشريعة المحمدية جامع
للاحكام المنزلة من طرف الله تعالى الشاملة جميع النوع
الانساني وهذه الأحكام باقية الى يوم القيامة. حيث انها
تقبل اساس تغير الاحكام بتبدل الايام. وهذا له شأن كبير في
المسائل الاجتهادية. وقد يفهم من قول الشارع الاعظم:
الدين يسر ان ارادة الحق هي عدم التشديد ونفي الصعوبة عن
كل امر اعتقاديا ً كان او عمليا ً في المسائل الاجتماعية.
وكذلك ما ظهر في كل دين من الاحكام هو عبارة عن التوافق في
احوال المجتمع البشري.
المشقة تجلب التيسير؛
ان عمل الناس حجة يجب العمل بها؛
الضرورات تبيح المحظورات؛
تترك الحقيقة بدلالة العادة؛
المعروف بالعرف كالمشروط باللفظ؛
الثابت في العرف كالثابت بالنص؛
العادة محكمة؛ العبرة للغالب الشائع؛
التصرف بحسب الولاية يتوقف على وجود الفائدة...
وغير ذلك من احكام القواعد الكلية تثبت بلا تردد أن دين
الاسلام هو دين اجتماعي غايته السهولة.
ثم ان المقصود من الشرائع الالهية اصلاح الخلق وصلاح
العالم. اذ لا يمكن الادعاء بان كل شرع جيء به لشارعه بل
للمشروع اليهم. ومما امتاز به الاسلام بذل الجهد لصلاح
العالم وتهذيب الأخلاق بكثير من الاحكام الاجتماعية
والاخلاقية. وان الغاية من هذا السعي في الاحكام الدينية
والاعتقادية خلاصتها – من الظلمة الى النور- وهذه هي
البغية التي تتطلبها البشرية في الحياة. ويستدل على هذا
بكثير من الآيات البينات مثل قوله تعالى:
هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات الى
النور؛
ويجعل لكم نورا ً تمشون به.
وقد جاء في القرآن الكريم: الله نور السموات والارض.
والاسلام وضع الوحدة والتوحيد والاتحاد اساسا ً لسوق
الانسان الى الجامعة الجنسية. ويمكن ارجاع كل المسائل
الدينية والاحكام الاعتقادية تجاه الحق والنفس والعالم
الانساني الى هذه الامور الثلاثة.
لا يمكن اجراء الجبر والاكراه في تبليغ الدين الاسلامي
ونشره كما أنه لا يجوز التسلط على وجدان احد بقوله تعالى:
لا اكراه في الدين.
وتفهم صورة التبليغ من قوله تعالى:
أدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي
هي احسن.
ان شمائل الاسلام التي تتظاهر من سياق كلام الحق هي عبارة
عن: طهارة القلب؛ حسن القصد وسلامة الطوية؛ الرحمة والرفق
بالانسان؛ رعاية حقوق الخلق؛ المجاهدة في سبيل الله؛
الايفاء بالعهود والمحافظة على الامانات؛ مخافة الله؛
اجتناب المنكرات؛ الصدق في القول والعمل؛ الجود والاحسان؛
تمييز الحق من الباطل؛ العدل واصلاح ذات البين؛ حسن الظن
بالناس؛
وما في مصاف ذلك من السجايا العالية والمكارم الفاضلة...
ان الدين الاسلامي يعتبر معرفة النفس دليلا ً على معرفة
الحق. ثم يترقى بها الى معرفة الآفاقيات والطبيعيات. ولا
ينكر احد وجود المناسبة بين عالم الانسان وعالم الطبيعة.
والبحث عن هذه المسئلة والاهتمام بشأنها يتجلى لنا من قوله
تعالى:
أانتم أشد خلقا ً ام السماء بناها؛
لخلق السموات والارض اكبر من خلق الناس.
ويفهم من ذلك أن الله تعالى خلق الطبيعة وبنى تكوينها على
مقاصد مهمة... ثم ان للدين الاسلامي احكاما ً تتعلق
بالمجتمع البشري وأهم هذه الاحكام - الامر بالمعروف والنهي
عن المنكر - ولا يوجد دين سوى دين الاسلام يكلف فردا ً
بهذه الوظيفة امام الهيئة الانسانية... وانتظام العالم
البشري يقضي بوجود الوسائط بين الحق والخلق لتبليغ
الرسالات الالهية بلا خوف من احد سوى الله فيما يبلغونه:
قال الله تعالى: الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا
يخشون احدا ً الا الله.
ان الشارع نظر في الاحكام المشروعة الى نقطة المصلحة اي
المعاملات المتداولة بين الناس. وقد عرفها الشرع بأنها -
جلب المنفعة ودفع المضرة - ولم يختلف بهذا احد من الأئمة
في زمان من الازمنة. حتى ان منكري الاجماع لم يترددوا بهذا
الاصل المهم. ان الشرع يحدد العادة بالامور المستقرة في
النفوس والمتكررة والمستحسنة لدى الطبع السليم. والعادات
التي لم يستحسنها الطبع السليم يلزم تركها وشأنها وهذا
لعمري من الضروريات الدينية والعقلية. وشهادة العقل مشروطة
في العرف ايضا ً. وان قسما ً كبيرا ً من المسائل الفقهية
يرجع الى اعتبار العرف والعادة وتقديرهما. والشريعة
الاسلامية قائلة بقابلية تغير الاحكام المبنية على العرف
والعادة.
ان الادلة الشرعية هي الكتاب الكريم والسنة السنية واجماع
الأمة المحمدية والقياس الصحيح. وكان الاجتهاد ايضا ً في
عصر الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد كان اصحابه الكرام
والتابعون ومن جاء بعدهم من الأئمة المجتهدين يعملون
بالقياس في مسائل كثيرة لم يرد النص بها. ومن هذا يظهر
جليا ً مقدار سعة احكام الشريعة الاسلامية... الغاية في كل
شيء السهولة - ترك العسر لليسر - تلك قاعدة مهمة في الدين
الاسلامي. قال الله تعالى:
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.
وجاء في صحيح البخاري: ان الدين يسر؛ خير دينكم اليسر.
ويأتي بعد النص والحديث اصل اجماع الأمة. وذلك دليل شرعي
مهم وهو عبارة عن اجماع مجتهدي الأمة في اي عصر كان امر
ديني اجتهادي يحصل به ما لم يكن قبل وهو لا يقبل النسخ
لانه لم يخالف النص. ولا ينعقد الاجماع في ما يخالف النص.
وذلك كله مبني على رعاية المصلحة حتى ان اكثر اختلافات
الشرائع لم يكن ناشئا ً الا عن تغير الازمنة ومصلحة العالم.
وقد مر ان قسما ً من المسائل الفقهية يرجع الى اعتبار
العرف والعادة وتقديرهما. والفقهاء قد اعتمدوا على ذلك حتى
جعلوه من جملة الاوصاف المشروطة لمن يتولى منصب القضاء.
فقد شرطوا على القاضي ان يكون مقتدرا ً على ادراك عادات
الناس.
وردت الاحكام في الدين الاسلامي التي تدل على عظم ماهية
الانسان وعدم خلقه عبثا ً، ومن هنا نعلم مقاصد الاحكام
المتجهة نحو حفظ النفس وحفظ النسل وحفظ العقل التي هي من
ضروريات الحياة. وبها يسلم كل عاقل نظرا ً لاعتبارها من
اهم الاحتياجات العمرانية والمدنية. ومن اهم احكام الدين
الاوصاف الاجتماعية والفضائل الاخلاقية. وهذه الاحكام قررت
وضع كل وظيفة تجاه نفس الانسان وعائلته وقومه وسائر
مشاركيه في البشرية على سبيل الانفراد. والرسول الاعظم بعث
لاتمام مكارم الاخلاق كما رويت عنه احاديث متعددة بذلك.
فالعقل المستنير له مكانة عظيمة في مظاهر الدين. قال تعالى:
وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون.
ان العقل في استقراء المسائل الدينية واستقصاء الكمالات
البشرية مطلق الحرية في نظر الاسلام حتى ان الشارع الاعظم
جعله مدارا ً للتكليف. بل الحرية بانواعها لها قيمة كبيرة
لديه ايضا ً كحرية الكلام وحرية الوجدان... وهذا يدل على
الضالة المنشودة في عالم الوجود ألا وهي الفائدة
الاجتماعية والمنافع العمومية وبقاء سعادة الخلق. قال الله
تعالى: واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض.
وخلاصة القول أن الدين الذي اعتبر الخلق عيال الله ودعا
المسلمين الى الاتحاد كنفس واحدة وأمر بالتخلق بأخلاق الله
هو دين اشتمل على اسمى الغايات. والمسلمون يعتقدون ان الله
تعالى خالق وموجد جميع الافعال وأن الخير والشر والنفع
والضر والطاعة والعصيان والكفر والايمان وكل ما يكون وما
كان هو بقضاء الله وقدره ومشيئته وارادته وهذا انقياد عظيم
وتوكل كلي تجاه عظمة المعبود جل وعلا. ومعنى الاسلام
التسليم وسلامة النفس. وهذا الدين المبين اوضح سبيل الوصول
الى الحق والحقيقة وبين صورة اكتساب النجاة والسعادة في
الدارين. واظهر ما يوجب الانسان المخلوق بالفطرة السليمة
ان يسعى لصلاح حاله وتهذيب نفسه. وهذا مما يزيد اعتماد
الانسان على حسن الظن بذاته ويزيده اعتقادا ً بكمال مكارم
الحق التي لا تحصى وصفاته التي لا تستقصى كما يزيده معرفة
ً بنقصان كماله وفضله في وجوده وعقله. ولا شك أن بهذا
يتعالى الانسان عقلا ً وفكرا ً. ان مقدرات الانسان
وتجلياته عبارة عن سرور وكدر. والاحكام تجري دائما ً من
هذين الموردين. والحياة الانسانية معقودة عليهما تقريبا ً
واجتتابا ً. ولهذا عرفنا الاسلام أسباب ما يوقعنا في
الاكدار وما يجلب لنا المسرات. ويمكن للمسلم أن يتخذ من
الاحكام الشرعية سبيلا ً لهذه الغاية باستعداد عقله وقوة
نفسه والسلام على من اتبع الهدى.