لبنان المياه و الحدود 1916 - 1975
بيروت 2012 د. عصام كمال خليفه (مقتطف)
قضية المياه وتوسيع الحدود في مخطط الحركة الصهيونية
(1917-1923)
لعبت الثروة المائية، منذ أقدم العصور، دورا ً هاما ً على
الصعيد السياسي. وهناك دراسات بارزة ركزت على علاقة السلطة
السياسية بادارة توزيع المياه. لقد توصلت هذه الدراسات الى
نتائج واضحة لجهة الترابط بين توزيع السلطة السياسية في
مجتمع معين والقدرة على ادارة توزيع المياه في هذا المجتمع.
وبمقدار تضاؤل هذه المادة الحيوية عند مجتمع ما، تتصاعد،
بالمقابل، الأهمية السياسية لمسألة توفيرها وادارتها في آن
معا ً.
مناطق الشرق الأوسط، بشكل عام وفلسطين، بشكل خاص، كان
للمياه دورها البارز في مسار تطوراتها السياسية
والاقتصادية والاجتماعية على امتداد حقب التاريخ. فأرض
فلسطين تتصف بتنوع المناخ. شمالها يتصف بالنداوة والرطوبة،
وتتراوح الأمطار فيه ما بين 600ملم و1000 ملم سنويا ً،
بينما في الجنوب، تعاني منطقة النقب من الجفاف بحيث لا
يسقط في بئر السبع أكثر من 200 ملم وفي أيلات 30 ملم. كما
أن الانتقال من الرطوبة الى الجفاف هو أكثر بروزا ً بين
السهل الساحلي ووادي نهر الأردن والبحر الميت. وبفعل هذه
الأوضاع الطبيعية والمناخية التي تعرفها فلسطين - والتي
نجم عنها فقر نسبي في الثروة المائية - فقد لحظت الحركة
الصهيونية منذ قيامها الأهمية الخاصة لهذه المسألة في
تخطيطها للاستيطان ولمسائل الحدود. وهكذا، شكلت المياه
نقطة مركزية تمحورت حولها أغلب ستراتيجيات هذه الحركة على
الصعيدين السياسي والديبلوماسي، كما على الصعيد العملي.
في هذا البحث المقتضب، سنعرض الخط الثابت للحركة الصهيونية
فيما يتعلق بالسيطرة على مياه جنوب لبنان ، وبخاصة
الليطاني والحاصباني والوزاني، منذ نهاية الحرب العالمية
الأولى حتى عقد اتفاقية ترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين
سنة 1923. وسنبين كيف انعكس هذا الأمر، في الفترة نفسها،
على تصور الحركة الصهيونية لمقتضيات ترسيم الحدود بين
لبنان وفلسطين.
لقد ركز "آباء" المشروع الصيوني، حتى قبل مؤتمر بال 1897،
على قضية الحيز الجغرافي لفلسطين ومصادر المياه اللازمة
لها. ففي عام 1873، أوفدت الجمعية العلمية البريطانية بعثة
من الخبراء والمهندسين الى فلسطين، برئاسة الجنرال تشارلز
وارن، لتقصي ما فيها من موارد طبيعية، ومنها المياه. حصل
ذلك بالتنسيق مع الدوائر اليهودية الفاعلة. وقد ركز تقرير
اللجنة على أهمية مياه شمال فلسطين في ري مناطقها الجنوبية.
وعند مجيئه الى الأراضي المقدسة في ت1 1898، أكد
الامبراطور غليوم الثاني لهرتزل، زعيم الحركة الصهيونية،
أنه سيكون لفلسطين مستقبل زاهر. فأجابه أن شرط الوصول الى
ذلك يكمن الى حد كبير في تأمين مياه الري. وقد ركز هرتزل،
في مذكراته، على جنوب لبنان وجبل الشيخ نظرا ً لأهميتهما
الاقتصادية والعسكرية، ولاحتوائهما على مصادر المياه
الضرورية لتطوير الحياة الاقتصادية والاجتماعية في فلسطين.
أما تريتش، فقد اعتبر أن فلسطين تتألف من عدة أجزاء، منها
"ذلك القسم من ولاية بيروت الواقع الى الجنوب من متصرفية
جبل لبنان المستقل". وعام 1909، طبع جاكوبوس كتابا ً
باللغة الألمانية دعاه "أرض اسرائيل"، اعتبر فيه أن جبل
لبنان هو الحدود الشمالية.
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914)، حدد حاييم وايزمن،
خليفة هرتزل في زعامة الحركة الصهيونية، أهداف الحركة ابان
الحرب في أربع نقاط:
1- ضرورة انتصار الحلفاء.
2- ضرورة وضع فلسطين تحت انتداب بريطاني.
3- الاستفادة من هذا الانتداب لاستقدام مليون مستوطن يهودي
الى فلسطين.
4- وضع حد لهذا الانتداب مع تصاعد قوة الصهاينة في تلك
البلاد.
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، بادر سوكولوف الى دعوة الحلفاء
الى مؤتمر رباعي لبحث مطالب الحركة الصهيونية. كما حاول
اقناع روما بحسن نوايا تحركه. ومن جهة ثانية، تقدم
الصهاينة بعدة مذكرات الى الخارجية الانكليزية والخارجية
الفرنسية مشددين على "مصالحهم التاريخية في فلسطين". ولئن
كان التطابق واضحا ً بين السياسة الانكليزية والمطالب
الصهيونية في هذه المرحلة، فقد كان هناك بعض التباعد بين
السياسة الفرنسية وتلك المطالب.
في أيار 1916، أقرت اتفاقية سايكس - بيكو، وهي لم تتطرق
الى مسألة حدود لبنان ولا الى علاقته بمحيطه. بيد أن هذه
الاتفاقية وضحت معالم الحدود الجنوبية لمنطقة النفوذ
الفرنسية المباشرة (المنطقة الزرقاء). وهي تبدأ من نقطة
قريبة من جنوب صور الى بحيرة طبريا. عارض الصهاينة الحدود
الشمالية لفلسطين كما رسمتها هذه الاتفاقية. فخط الحدود
هذا قسم المستوطنات اليهودية الموجودة آنذاك، مما جعلها
تخضع لسلطتين. وشكك المهندس الزراعي سولومون كابلانسكي
بصحة المصادر الجغرافية التي حددت فلسطين في نطاق مساحة لا
تزيد عن 27 ألف كلم 2. وفي اعتقاده أن مساحة فلسطين تشمل "الرقعة
التي يحدها شمالا ً القسم المتجه غربا ً من نهر الليطاني،
حيث يصب في البحر فوق مدينة صور"... ثم يؤكد كابلانسكي
الحاق الشريط الساحلي من نهر الليطاني حتى صيدا بفلسطين.
قبيل هذه الفترة، صدر كتيب بعنوان "ملاحظة حول حدود فلسطين"،
دون أن يحمل اسم مؤلف معين، وربما يكون نتيجة عمل جماعي من
قبل قيادة الحركة الصهيونية. أشار هذا الكتيب الى أن "الحدود
الشمالية للرقعة القديمة التي كانت للأسباط الاثني عشر
تمتد من الشاطىء، شمال صيدا بقليل (صيدون)، في خط مستقيم
تقريبا ً، حتى النقطة التي ينحدر عندها وادي اللوا...".
ومهما يكن من أمر التحفظ الصهيوني على اتفاقية سايكس -
بيكو، خاصة لجهة الحدود الشمالية لفلسطين، فأهمية هذه
الاتفاقية، بالنسبة اليهم - تكمن في أنها أعطت فلسطين وضعا
ً دوليا ً مستقلا ً عن باقي المناطق المحيطة.
هاجس توسيع الحدود
في 2 ت 2 1917، أصدرت الحكومة البريطانية وعدا ً للحركة
الصهيونية تؤكد فيه عطفها على "انشاء وطن قومي للشعب
اليهودي في فلسطين...". وقد اعتبر هذا الوعد، من قبل لويد
جورج، بأنه "أحدث تغييرا ً في خريطة العالم". وقبيل فترة
صدوره، أصدر بن غوريون وبن زفي كتابهما "أرض اسرائيل"، حيث
اعتبرا أن متصرفية جبل لبنان هي الحدود الشمالية للدولة
اليهودية. كذلك طرحت عدة أجنحة في الحركة الصهيونية، وأبان
هذه المرحلة، مسألة توسيع حدود فلسطين نحو وادي البقاع
شمالا ً، كما وضعت الخطط التي تؤمن حدودا ً تشمل منابع نهر
الأردن، ونهر الليطاني، وثلوج حرمون، واليرموك وروافده
والجبوك. وكان هناك تفكير بتوليد الطاقة المائية -
الكهربائية عن طريق اقامة مساقط وشلالات لمياه الليطاني
واليرموك.
في أوائل تشرين الأول 1918، غادر الأتراك سوريا ولبنان تحت
وطأة الهجوم الذي قام به القائد الانكليزي اللنبي. وكانت
مدينة القدس قد سقطت بيد قوات الحلفاء في 9 كانون الأول
1917. أمسك اللنبي بيده السلطة الفعلية العليا في المنطقة
كلها:
- من خلال الادارة العربية في الداخل السوري.
- من خلال القائد الفرنسي (دي بياباب) في المنطقة الغربية
(من شمال عكا حتى الاسكندرون)
- من خلال الحكم الانكليزي المباشر في فلسطين.
أطلق على الأولى منطقة العدو المحتلة - القسم الشرقي،
والثانية القسم الشمالي، والثالثة القسم الجنوبي. ما يهمنا
في هذا السياق هو الاشارة الى التعديل الذي حصل في الحدود
الشمالية لفلسطين، حيث نقلت نقطة الحدود الشمالية الشرقية
من بحيرة طبريا - كما نصت عليه اتفاقية سايكس بيكو- الى
بحيرة الحولة. لا شك بأن هذا التغيير حصل تحت وطأة التدخل
الصهيوني. وقد جسد هذا التوجه قائد القوات الانكليزية
المتقدمة في فلسطين (ارشيبالد ميراي): "بدون أدنى شك،
سنعمل لفلسطين اليهودية وسنسمح للاسرائيليين بتحقيق حلم
الصهيونية.
رغم موافقة رئيس الوزراء الفرنسي كليمنصو (ك1 1918) على
وضع فلسطين تحت السلطة الانكيزية، فان تعديل حدودها
الشمالية لاقى الاستياء والمرارة من قبل الفرنسيين. وبينما
كانت الحدود الشمالية مسألة ثانوية بالنسبة للمصالح
الستراتيجية الانكليزية، كانت هذه الحدود نفسها ذات أهمية
قصوى بالنسبة للحركة الصهيونية، حليفة انكلترا، أما الحجج
التي كان يشدد عليها الصهاينة فترتبط بتوفير حدود يمكن
الدفاع عنها (اعتبارات أمنية)، وتأمين الموارد المائية
الموجودة في جنوب لبنان. وهكذا وجد رئيس الوزراء الانكليزي
لويد جورج نفسه مشدودا ً بين تصلب الحركة الصهيونية، من
جهة، وتصلب الموقف الفرنسي، من جهة أخرى. وللخروج من هذا
الوضع، اعتمد قولا ً توراتيا ً يوضح حدود فلسطين: "من دان
الى بئر السبع" From Dan to Beer Sheba
في 3 شباط 1919، قدمت الحركة الصهيونية مذكرة الى المجلس
الأعلى لمؤتمر الصلح، عنوانها "تصريح المنظمة الصهيونية
بصدد فلسطين". وقد جاء في ملحق هذه المذكرة:
"ان حدود فلسطين يجب أن تسير وفقا ً للخطوط العامة
المذكورة أدناه: تبدأ في الشمال عند نقطة على شاطىء البحر
الأبيض المتوسط بجوار مدينة صيدا، وتتبع مفارق المياه عند
تلال سلسلة جبال لبنان حتى تصل الى جسر القرعون، فتتجه منه
الى البيرة، متبعة الخط الفاصل بين حوضي وادي القرن ووادي
التيم، ثم تسير في خط جنوبي متبعة الخط الفارق بين
المنحدرات الشرقية والغربية لجبل الشيخ (حرمون) حتى جوار
بيت جن.... وتضيف المذكرة: "ان جبل الشيخ (حرمون) هو أب
المياه" الحقيقي لفلسطين، ولا يمكن فصله عنها دون توجيه
ضربة قاصمة الى جذور حياتها الاقتصادية بالذات... كما يجب
التوصل الى اتفاق دولي تحمى بموجبه حقوق المياه للشعب
القاطن جنوبي نهر الليطاني (أي اليهود في فلسطين الكبرى)
حماية تامة. اذ أن منابع المياه هذه، فيما لو حظيت
بالعناية اللازمة، تستطيع أن تخدم تنمية لبنان مثلما تخدم
تنمية فلسطين". ما يمكن تسجيله، من خلال ملحق المذكرة The
boundaries of Palestine - Schedule هو أن المنظمة
الصهيونية أحجمت عن تقديم الحجج المتعلقة بالاعتبارات
الأمنية المستقبلية، وربما كان ذلك مراعاة لظروف التحالف
بين فرنسا وانكلترا. بينما كان واضحا ً أن المبرر الأساسي
لاقتراح الحدود كان مرتبطا ً بمسألة مياه جبل حرمون
وباستغلال مياه نهر الليطاني.
في 17 آذار، رفضت فرنسا مطالب الحركة الصهيونية، وذلك من
خلال مذكرة سلمها كليمنصو الى لويد جورج أصر فيها على الخط
الأساسي المتفق عليه في اتفاقية سايكس - بيكو.
واستمر الخلاف قائما ً بين الموقفين، الانكليزي والفرنسي،
حول مسألة حدود فلسطين الشمالية. ففي الجلسة 86 التي عقدت
في 22 أيار 1919 (في اطار المجلس الأعلى لمؤتمر الصلح)،
احتج كليمنصو على الخريطة التي قدمها لويد جورج. ولم يتم
التوصل الى تسوية لهذه القضية باعتبار أن فرنسا كانت تضغط
لتوسيع حدود لبنان نحو الجنوب، وبريطانيا كانت تدعم اطماع
الحركة الصهيونية لتوسيع فلسطين نحو الشمال. في هذا السياق،
قدم بلفور الى لويد جورج مذكرة (بتاريخ 26/6/1919) جاء
فيها: "... الشيء الرئيسي الواجب أخذه بعين الاعتبار، في
مسألة ترسيم الحدود الفلسطينية، هو جعل السياسة الصهيونية
ممكنة من خلال اعطاء أوسع مجال للتطور الاقتصادي في فلسطين.
وهكذا، يجب أن تعطى الحدود الشمالية لفلسطين سيطرة كاملة
على القوة المائية التي تنتمي جغرافيا ً الى فلسطين وليس
الى سوريا...".
في 13 أيلول 1919، تقدمت انكلترا بتسوية عرفت "باقتراح
دوفيل" Deauville Proposal، طرحت فيها سحب جميع قواتها
العسكرية من الأراضي التي اتفق على أن تكون بعهدة فرنسا.
وفي النقطة السادسة من هذا الاتفاق، جاء ما يلي "ان
الأراضي المحتلة من قبل القوات البريطانية ستكون فلسطين
وفقا ً للحدود القديمة "من دان الى بئر السبع"...". ان
اقتراح دوفيل هذا طالب بأن تكون الحدود الشمالية لفلسطين
على خط نهر القاسمية (الليطاني)، من الشاطىء حتى بانياس
شرقا. وقد حاول رجال الدولة الانكليز الايحاء بأن بانياس
هي نفسها دان التوراتية، لكنهم في واقع الأمر ينفذون رغبات
الصهاينة.
في 19 أيلول 1919، نشرت جريدة التايمز مقالا ً يعكس وجهة
نظر الأوساط الصهيونية، وجاء فيه: "... فالتحديد التوراتي
من دان الى بئر السبع يشكل بالنسبة الى الدولة اليهودية
حدودا ً ستراتيجية في الشمال، ولكن أفضلية التقاليد
التوراتية تتمثل في وصل مناطق اليهود الموجودين في الشمال
بمناطقهم الموجودة في الجنوب، وهي كانت دائما ً مهددة
بالاجتياح عبر شرق الأردن. هذه حجة من جملة حجج كثرة لكي
يتم رفض الحدود الموضوعة لفلسطين بموجب اتفاقية سايكس -
بيكو. ان نهر الأردن لا يمكن أن يشكل الحدود الشرقية
لفلسطين، وفلسطين تتضمن جزءا ً كبيرا ً من حوض الليطاني،
أي المنطقة الممتدة بين لبنان (أي متصرفية جبل لبنان)
وفلسطين. ولا يجب أن تتمتع فلسطين بحدود عسكرية في شرق
الأردن فحسب، ولكن يجب أيضا ً أن تتضمن مياه الليطاني
الضرورية للتنمية الاقتصادية في شمال الجليل. ان حتمية
تحقيق هذه الحدود في الشمال تخضع لضرورتين بارزتين لا يجب
اضاعتهما في عداد باقي الحجج الأخرى، الا وهما تحقيق
التفوق السترتيجي وتأمين الاستقلال الوطني، وكذلك -
بالنسبة الى الحدود الشمالية - ضمان تأمين كل ما كانت
تفتقر اليه فلسطين التوراة... ان الليطاني يشكل ثروة نفسية
بالنسبة الى سهول الجليل الزراعية في الشمال... وكذلك
أهمية حوضه تتخذ بعدا ً عسكريا ً بالنسبة الى الأمن القومي
لفلسطين اليهودية...".
في الفترة اللاحقة، استمرت الدعاية الصهيونية في المطالبة
بتوسيع الحدود الشمالية تحت حجج مختلفة أبرزها الاعتبارات
الأمنية والمائية. وكان المنبر البارز لهذه الدعاية نشرة
تحمل اسم "فلسطين، لسان حال اللجنة الفلسطينية -
البريطانية" Palestine, the Organ of the British
Palestine Committee
الموقف الفرنسي الرافض
ففي العدد الصادر في 2 تشرين الثاني 1919، مطالبة بايصال
الحدود الى شمال صيدا، وفي العدد الصادر في 6 كانون الأول
1919، تأكيد على أهمية مياه الليطاني وحرمون والأردن. وقد
استغل الصهاينة فرصة تأجيل البت النهائي في مسألة الحدود،
بين بريطانيا وفرنسا، لتكثيف هذه الدعاية. كما حرضوا بعض
الموظفين الانكليز الذين يدورون في فلكهم لدعمهم في مسألة
ضم الليطاني الى فلسطين. من هنا مبادرة الكولونيل مايزتز
هاجن، كبيرالضباط السياسيين الانكليز في القاهرة، الى
ارسال مذكرة للورد كيرزون في 15 كانون الأول 1919. ومن
جملة ما جاء في هذه المذكرة:
"ان التانمية النهائية لفلسطين غرب نهر الأردن تعتمد أساسا
ً على الزراعة، بسبب تربتها ومناخها وقربها من شاطىء البحر.
لا يمكن تأمين الصحة الاقتصادية في فلسطين الا بالري على
نطاق كبير، وبجلب المياه من غير المطر. ولا يمكن الحصول
على هذه المياه الا في شمالي فلسطين من منابع نهر الأردن
والليطاني. واذا ما حرمت فلسطين من وسائل الري والقوة
المائية على أوسع نطاق، فسيعاق مستقبلها الاقتصادي منذ
البداية... واذا ما أريد تأمين هذه الأوضاع الاقتصادية،
فيجب أن ترسم الحدود الشمالية من البحر، شمال نهر الليطاني
بالضبط، وتتبعه الى فوق وعلى مسافة معينة من الضفة اليمنى،
تقطعه من الغرب الى الشرق بالقرب من مكان انحدار الليطاني.
ومن هناك، يجب أن تتجه الحدود بحيث تضم مياه جبل الشيخ
التي تجري الى وادي الليطاني أو الأردن".
على خط آخر ، كانت السلطات الانكليزية تحاول أن تخفف من
تصلب المعارضة الفرنسية في مسألة تغير الحدود، وذلك من
خلال التقدم باقتراحات معدلة. ففي 23 كانون الأول 1919،
قدم الانكليز حلا ً وسطا ً بين التطرف الصهيوني والتشدد
الفرنسي. ومما جاء في الاقتراح: "...اننا نعتقد أنه يمكن
تحقيق الأهداف الصهيونية في هذا الاتجاه اذا حصلت الحدود،
بدلا ً من أن تضم وادي الليطاني بأكمله من البحر حتى
الانحناء شمالا ً، تمتد من مكان بالقرب من نقطة البدء
الحالية لخط سايكس- بيكو، شمال عكا، باتجاه شمالي بحيث تضم
الى فلسطين انحناء الليطاني ذاته وجزءا ً صغيرا ً من
المنطقة حتى شمال الانحناء. ومن هناك، يمكنها أن تمتد شرقا
ً حتى السفوح الجنوبية لجبل الشيخ جنوب راشيا قاطعة نهر
الحاصباني...".
استمر الرد الفرنسي متشبثا ً بخط سايكس - بيكو، وكان أقصى
ما تراجع عنه الفرنسيون للصهاينة: الاقرار بحصة فلسطين من
مياه جبل حرمون المتدفقة جنوبا ً بنسبة 33%.
هذا الوضع حمل الحركة الصهيونية على الاستعانة بالرئيس
ويلسن الذي نزل عند ارادتهم وأرسل الى الحكومة الانكليزية
كتابا ً رسميا ً حاد اللهجة وضع الصهاينة أنفسهم نصه. ومما
جاء فيه:
"ان تحققت مطالب الفرنسيين المستندة الى اتفاقية سايكس -
بيكو السرية، يكون تحقيقها ضربة قاضية للوطن القومي، تنافي
طبيعة أرضه الجغرافية وتهمل حاجاته الاقتصادية. فنجاح
القضية الصهيونية يتوقف على توسيع الحدود في الشمال والشرق
الى أن تشمل نهر الليطاني ومنابع المياه في الحرمون، أي
سهلي حوران وجولان. ان لم يكن وعد بلفور- الذي وافقت عليه
فرنسا وسائر الدول الحليفة - قصاصة من الورق، فيجب أن تتخذ
التدابير اللازمة لتحقيقه".
كما أرسلت المنظمة الصهيونية في الولايات المتحدة، برئاسة
برانديس، برقية الى لويد جورج تطالب فيها بالحؤول دون
خسارة جزء كبير من فلسطين الشماليه:
"... ان اتفاقية سايكس - بيكو تقسم البلاد يتجاهل كلي
للحدود التاريخية والضرورات. الحدود القومية الشمالية
والشرقية لا غنى عنها لقيام مجتمع يعيل نفسه ولتطور البلاد
الاقتصادي (الى الشمال). يجب أن تضم فلسطين مفارق مياه نهر
الليطاني عند جبل الشيخ (حرمون)، والى الشرق سهول الجولان
وحوران. ولكي يتم وضع وعد بلفور موضع التنفيذ - وهو الذي
وافقت عليه فرنسا وغيرها من الدول الحليفة والمؤيدة - لا
بد من التسليم بهذه الحدود لفلسطين".
في شباط 1920، رفضت فرنسا بشكل صارم "اقتراح دوفيل"، وأكدت
على بقاء نهر الليطاني ضمن الأراضي اللبنانية. وقد بلور
برتيلو Berthelot موقف فرنسا من خلال طرحه التالي: "تتبع
الحدود الجنوبية (لسوريا) خط سايكس - بيكو، باستثناء تعديل
طفيف لحدود فلسطين، يتوافق مع التعريف الذي يدعو له السيد
لويد جورج، الذي كان يفضل الحدود القديمة لدان وبئر السبع؛
وبكلمات أخرى، أن فلسطين ستضم قضاء صفد حتى دان شمالا ً،
وأن الحدود ستعين الى الشرق بخط عمودي يرسم من جنوب جبل
الشيخ الى حيث تقطع الحدود التي تصفها اتفاقية سايكس-
بيكولعام 1916...". ان الرئيس الانكليزي لويد جورج اعترف
بروح التسوية وبالمساعدة التي أبداها المفاوض الفرنسي
برتيلو، وأكد على أن المسائل يجب أن تسوى بين حلفاء
وأصدقاء لا بين متنافسين. كان تركيز لويد جورج واسعا ً على
كتاب البروفسور أدام سميث Adam Smith في بحث مسألة الحدود
الشمالية لفلسطين. وبرغم كون سميث عالم لاهوت، فقد كان
واضع كتاب عن "الأطلس التاريخي لجغرافية الأراضي المقدسة".
وفي اللوحة 34 من هذا الأطلس تصور لجغرافية فلسطين تحت حكم
داود وسليمان. وهذه الخريطة استعملها لويد جورج ليكون فكرة
عن مساحة فلسطين.
في مؤتمر سان ريمو الذي عقد في نيسان 1920، تم اقرار
انتداب فرنسا على سوريا (ولبنان) وبريطانيا على فلسطين
والعراق. وبقيت مسألة الحدود دون حل نهائي. قبيل انعقاد
المؤتمر، وجه حاييم وايزمن ثلاث رسائل. في الرسالة الأولى
الموجهة الى اللورد بلفور قال: "علمت أنه ستقرر غدا ً
مسألة الحدود الشرقية لأرض اسرائيل. وقد سمعت أيضا ً أن
هناك امكانية لايجاد حل وسط يقضي باخراج نهر الليطاني من
حدود أرض اسرائيل، وهذا يعني أن بلادنا ستحرم من عامل
اقتصادي ضخم.
اني أتوسل اليك في هذه الساعة الأخيرة أن تستغل تأثيرك ضد
أي حل من هذا النوع، واذا أراد البريطانيون، فبامكانهم أن
يؤمنوا لأرض اسرائيل حدودا ً ملائمة. أما الفرنسيون، فليس
من المؤكد أن باستطاعتهم اعطاء أهمية كبيرة لنهر الليطاني.
لقد عملت أشياء كثيرة من أجلنا واسمح لي أن أزعجك بطلبي
هذا في ساعة التقرير".
وجاء في الرسالة الثانية الى السير لويس رامير:"نحن نعتقد
أن ليس هنالك أهمية لنهر الليطاني في المنطقة الواقعة الى
الشمال من الحدود المقترحة. وانه من الممكن الاستفادة منها
بشكل جيد في المنطقة الجنوبية فقط".
وفي رسالة وايزمن الثالثة الى أحد أعضاء الوفد الايطالي
ورد ما يلي: "يعتقد الفرنسيون أنه اذا أصررنا بشدة على
اعتبار الليطاني وجبل الشيخ حدودنا الشمالية، فليس هذا الا
لكوننا أبواق دعاية للاستعمار البريطاني. وهذا طبعا ً خطأ
كبير. كن متأكدا ً بأن البريطانيين غير معنيين بهذه
المنطقة الصغيرة. واذا كانوا يعيرون أي اهتمام لهذه
المسألة، فليس ذلك الا لأنهم يعرفون جيدا ً أنه سوف لا
تكون هناك أية امكانية تقريبا ً لاقامة الوطن القومي
اليهودي من ناحية اقتصادية بدون مصادر مياه الأردن
والليطاني".
في حزيران 1920، اقترحت فرنسا تسوية لحل القضية. مضمون هذه
التسوية أن خط الحدود يجب أن ينطلق من نقطة رأس الناقورة
على الشاطىء، أي على عدة أميال شمال خط سايكس - بيكو والخط
الفاصل بين المنطقة الجنوبية والمنطقة الشمالية لأراضي
العدو المحررة O.E.T.A، ومن الناقورة يتجه نحو الشرق.
بعدها يرتفع شمالا ً بشكل أصبع ليدخل ضمن فلسطين المستوطنة
اليهودية الشمالية في المطلة ووادي الحولة. بيد أن الحركة
الصهيونية رفضت هذه التسوية وعملت على تنظيم حملة "لانقاذ
الليطاني" من حزيران حتى كانون الأول. هذه الحملة اتخذت
مسارا ً مزدوجا ً باتجاه المسؤولين الانكليز خاصة - وغيرهم
أيضا ً، وباتجاه الرأي العام عبر الصحافة. حسبنا أن نعرض
النماذج من هذه الحملة.
لقد كثف حاييم وايزمن، في هذه الفترة، رسائله الى وزارة
الخارجية البريطانية. ومما جاء في احدى هذه الرسائل:
"... ان سيادتكم تعرفون ولا شك الأهمية الكبرى لليطاني
بالنسبة الى فلسطين، حتى ولو ضمت كل مياه نهري الأردن
واليرموك وجلبت الى فلسطين، فانها ستكون غير كافية بالنسبة
الى حاجة البلاد. ان الصيف في فلسطين جاف جدا ً وعملية
التبخر سريعة وكثيفة. وان ري القسم الأعلى من الجليل
وتأمين الطاقة الكهربائية الضرورية لحياة صناعية، ولو
محدودة، يجب أن يتم بواسطة مياه الليطاني. والخبراء يتفقون
على أن الليطاني هو ذو منفعة ضئيلة بالنسبة الى لبنان الذي
يملك كميات كبيرة من المياه... ان فرنسا تدرك ولا شك أهمية
الضرر الذي سوف يلحق بالحياة الاقتصادية في فلسطين من خلال
الحدود التي اقترحتها. فلو فصلت فلسطين عن نهر الليطاني
والجزء الأعلى من الأردن واليرموك، حتى لا نذكر اطلاقا ً
الضفة الشرقية لبحيرة طبريا، فانها لا تستطيع أن تكون
مستقلة اقتصاديا ً...".
"دستور اليهود المائي"
على الصعيد الاعلامي كانت عدة صحف ونشرات تخوض مواجهة
اعلامية واسعة من أجل تعديل الحدود وضم الليطاني الى
فلسطين - فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت نشرة Palestine
تخصص أغلب افتتاحياتها لهذه المسألة. العدد الصادر في
كانون الأول 1920، أكد على أهمية مياه الليطاني لحياة
فلسطين. وعدد شباط ربط مستقبل اقتصاد فلسطين بهذا النهر).
أما عدد آب ، فقد ركز على نقد قيام لبنان الكبير وضرورة
الحاق الليطاني بفلسطين لحاجتها اليه (من حيث المياه
والطاقة). ثم هناك عدد آخر في آب، انتقد السياسة الفرنسية
بسبب تصلبها في مسألة الليطاني وعدم ضمه الى فلسطين.
في أعداد شهر تشرين الثاني 1920، تتالى المقالات عن خطورة
عدم ضم الليطاني الى فلسطين ثم هناك تساؤل عن جدوى ضمه الى
لبنان، بينما ضمه الى فلسطين هو مسألة حياة أو موت لها.
وكذلك فان موقعه يشكل حدودا ً طبيعية لفلسطين الشمالية. ان
الليطاني، حسب الادعاء الصهيوني المتكرر يؤمن الري
والكهرباء لفلسطين. واذا لم يكن بد من من الضم المباشر
لليطاني، فعلى الأقل ثمة اصرار بالموافقة على استفادة
فلسطين من مياهه.
بموازاة نشرة Palestine، عرضت صحف أخرى، في أوروبا وأميركا،
متأثرة بتوجيهات المنظمة الصهيونية، مسألة المياه والحدود،
ومن أبرزها صحيفة التايمز اللندنية. فتحت عنوان "الحدود
الشمالية لفلسطين" عرضت الصحيفة خريطة علقت عليها بما يلي:
"فلسطين تطلب من فرنسا رسم حدودها الشمالية لتوفير ما يكفي
من امدادات المياه لضمان حياتها الاقتصادية..." ثم أوردت،
تحت الخريطة، مقالا ً من جملة ما جاء فيه:
هذا الخط الصهيوني العام المتشدد الى حد خطير تارة، حيث
كان يطالب بضم الأراضي الواقعة جنوب الليطاني الى فلسطين،
والمتساهل الى حد ما طورا ً، بحيث يكتفي بالمطالبة بالمياه
فقط، دون ضم الأرض، كان يلقى دعما ً وتفهما لدى الدوائر
الانكليزية. وهناك العشرات من الرسائل في أرشيف وزارة
الخارجية الانكليزية التي تبين هذا الواقع. وحسبنا أن نعرض
منها عينة من خلال رسالتين.
الرسالة الأولى أرسلها الوزير كورزون الى الدكتور وايزمن:
"عزيزي الدكتور وايزمن"
"أكتب اليك بصورة شخصية، جوابا ً على خطابك الرسمي المرسل
بتاريخ 11 تشرين الأول، لأؤكد لك أنني مدرك تماما ً
الأهمية القصوى لارتباط مستقبل فلسطين والوطن القومي
اليهودي الناجح بعقد اتفاق مع الفرنسيين يضمن الى أقصى حد
ممكن استعمال مياه الليطاني واليرموك من قبل فلسطين.
المفاوضات لا تزال مستمرة ونحن نبذل أقصى ما في وسعنا...".
والرسالة الثانية من تيلي Tilley (وزارة الخارجية
الانكليزية) الى الحركة الصهيونية: "لقد تلقيت توجيهات من
أيرل كيرزون لا بلغكم أننا تسلمنا رسالتكم المؤرخة في 30 -
10 والمتعلقة بحدود فلسطين ومسألة الاءنتداب عليها. اللورد
كيرزون يثمن اراءكم وحججكم بشأن أهمية الاستعمال غير
المقيد من قبل فلسطين لمياه الليطاني واليرموك بالنسبة
لمستقبلها الاقتصادي. وكما تعلمون فان المفاوضات الطويلة
حول هذا الموضوع مع الحكومة الفرنسية أسفرت، في الواقع، عن
موافقة الأخيرة على تعديل خط الحدود بين منطقتي النفوذ
الفرنسية والانكليزية كما حددت في اتفاقية 1916، ومياه
الأردن حتى الخط الشمالي الذي يربط المطلة وبانياس التي
كانت تعرف، في التوراة، بدان. الا أن الحكومة الفرنسية
رفضت أن تعدل في الحدود الشرقية لفلسطين، كما رسمت في
اتفاق 1916، بحيث تمتد الى شمال وادي اليرموك أو شرق بحيرة
طبريا، كما لا تبدي استعدادا ً لتوقيع أي اتفاق رسمي بخصوص
استعمال فلسطين لمياه اليرموك أو الليطاني أو شمال الأردن.
من جهتها، تتمنى حكومة صاحب الجلالة أن تتبين، ولو احتمالا
ً واحدا ً، لتوسيع الحدود الشمالية، كما جرى الاتفاق على
رسمها مؤقتا ً مع الحكومة الفرنسية، ومدها باتجاه الشمال.
لكنها لا تعرف كيف يمكن أن تقنع حكومة باريس بالموافقة على
فصل جزء من الحدود شرق بحيرة طبريا وشمال وادي اليرموك
الحيوية للمشاريع التطبيقية للمخطط الهندسي الصهيوني، كما
قد يكون عليه الوضع عند ضم هذه المنطقة الى أراضي فلسطين.
في الوقت نفسه، ليست حكومة صاحب الجلالة على استعداد - كما
هي المشورة المقدمة اليها حاليا ً - لتنظيم أية ترتيبات
تترك للحكومة الفرنسية حرية رفض تقديم تنازلات لكي تستعمل
فلسطين مياها خارج حدودها، وهي ضرورية لنموها وتقدمها. ولا
تعتقد أن بالأمكان الطعن في عدالة هذا الموقف عند التذكر
بأن استغلال هذه التنازلات سوف يفيد المنطقة المجاورة
وسكانها. وان المياه موضوع الخلاف لا يمكن أن تستخدم
لتوليد الطاقة الكهربائية الا من قبل فلسطين التي تجري
المياه باتجاهها. لقد وافقت الحكومة الفرنسية علنا ً ودعمت
قيام وطن قومي لليهود في فلسطين، لذلك فهي قد توفر الدعم
لسياسة حكومة صاحب الجلالة الرامية الى ايجاد الأوضاع
المناسبة لتحقيق هذه السياسة.
قررت حكومة صاحب الجلالة، لهذه الأسباب، تنظيم اتفاق مع
الحكومة الفرنسية بشأن هذا الموضوع حتى وان اضطرت الى
تأجيله حاليا ً.
يحتفظ اللورد كيرزون بحق الاجابة على نقاط أخرى في رسالة
لاحقة.
ان مناشدة وايزمن لعاطفة الامبراطورية البريطانية كانت غير
مجدية. وفي سيرة حياته أعلن: "حاولت أن أقنع المفوض السامي
الفرنسي في بيروت الجنرال غورو بأهمية مياه الليطاني
لفلسطين، فلم استطع أن أثير اهتمامه". وبرغم ذلك، اتخذ
المجلس الاستشاري الصهيوني في القدس في تشرين الثاني 1920
القرار التالي:
"يصر ممثلو عموم سكان فلسطين بالاجماع على أن تشمل الحدود
الشمالية: القسم الأسفل من الليطاني، وكل منطقة وادي
الأردن وجميع روافده ومجاريه. ويطلبون الى المندوب السامي
اتخاذ الخطوات اللازمة".
استمر الموقف الفرنسي في رفضه، وكذلك الرئيس لويد جورج
تمسك بشعار (من دان الى بئر السبع). وقد أوضح أحد
الديبلوماسيين الانكليز أجواء هذه المرحلة: "لما كانت
قضيتنا لتوسيع فلسطين موضع تنازع دائم في المجلس الأعلى (للحلفاء)
خصوصا ً حول الخلفية "التاريخية"، وبالتحديد على أساس
الخريطة 34 من "الأطلس التاريخي لجغرافيا الأرض المقدسة"
لآدم سميث... لو أخذت الخريطة 34 كمقياس لحسم الجدال حول
الحدود المفترض أن تشمل جزءا ً من الليطاني، كا كانت
مهمتنا صعبة، لكن سياق المناقشات في سان ريمو كان قد
استثنى عمليا ً اثارة هذه النقطة مجددا ً".
في 23 كانون الأول 1920، تم التوقيع على اتفاق بين فرنسا
ممثلة ب G. Leygues وبريطانيا ممثلة ب Hardinge of
Penshurst.
كان هذا الاتفاق انتصارا ً لوجهة النظر الفرنسية نسبيا ً.
وعن موضوع المياه نصت المادة الثامنة على ما يلي:
"يعين خبراء من قبل ادارات سوريا وفلسطين وذلك ليستكشفوا،
بشكل مشترك، وضمن مهلة لا تزيد عن ستة أشهر من توقيع
الاتفاق، امكانيات ري الأراضي وانتاج الطاقة الكهربائية
هيدرولوجيا ً من مياه الأردن الأعلى واليرموك وروافدهما،
بعد اشباع حاجات الأراضي الواقعة تحت سلطة الانتداب
الفرنسي.
من أجل حسن تطبيق الاستكشاف، تمنح الحكومة الفرنسية
مندوبيها تعليمات لجهة حرية التصرف باستعمال الفائض من
المياه لصالح فلسطين.
ما يجب الاشارة اليه هو أن هذا الاتفاق لم يأت على ذكر نهر
الليطاني، وفي ضوء ذلك اتخذ المؤتمر العام الصهيوني، الذي
اجتمع في باريس، قرارا يتحفظ فيه على مسألة الحدود
الشمالية لفلسطين:
"... ويجد المؤتمر نفسه ملزما بالأعراب عن أسفه لكون مسألة
الحدود الشمالية لأرض اسرائيل لم تجد سبيلها الى حل مرض
حتى الآن، وعلى الرغم من جميع المساعي التي بذلتها اللجنة
التنفيذية...".
تطبيقا ً لهذا الاتفاق، بدأت لجنة ترسيم الحدود بين لبنان
وفلسطين اعمالها منذ أوائل حزيران 1921. كان يترأس الجانب
الانكليزي الكولونيل نيوكومب Newcomb، والجانب الفرنسي
الكولونيل بوليه Paulet. وقد تم التوصل الى وضع التقرير
الختامي لتثبيت الحدود بين لبنان الكبير وسوريا، من جهة،
وفلسطين، من جهة أخرى، من البحر المتوسط حتى الحمة (وادي
اليرموك السفلي) تطبيقا ً لتوصيات البندين الأول والثاني
من اتفاقية باريس الموقعة في 23 كانون الأول 1920".
أصبح هذا الاتفاق نافذا ً بعد تصديقه نهائيا ً من الجانبين
الفرنسي والبريطاني ابتداء من 7 آذار 1923. وهو لم ينص في
أي من بنوده على ذكر مياه الليطاني وامكانية استغلالها من
قبل غيراللبنانيين أو السلطات الفرنسية المنتدبة على لبنان.
وفي عام 1934، صدقت عصبة الأمم على هذا الاتفاق فأصبح
مكرسا ً من وجهة نظر القانون الدولي.
لم تيأس الحركة الصهيونية من الأمل بالاستفادة من حياة
الليطاني، فقدمت عام 1936 وعام 1943 مشاريع لاستغلال مياهه.
كما وضع المهندس لودر ميلك كتابا ً بعنوان "فلسطين أرض
الميعاد"، اعتبر بمثابة "دستور اليهود المائي"، وقد لحظ
الاستيلاء على مياه الليطاني. كما وضعت دراسات عدة ضمن
التوجه ذاته (في 1939، تقرير أيونيدز، وهايز في العام نفسه،
وكلاب عام 1949، ومكدونالد، عام 1950). وبعد قيام اسرائيل،
عام 1948، وضعت عدة مشاريع تناولت ضم مياه الليطاني (مشروع
بنجر، مشروع باكر- هرزا ومشروع كونون. ولخص بن غوريون موقف
اسرائيل من المياه بقوله (14 أيار1955): "ان اليهود يخوضون
مع العرب معركة المياه. وعلى نتائج هذه المعركة يتوقف كيان
فلسطين". وردا ً على رسالة بعثها اليه ديغول قال (بنغوريون)
عام 1967:" ان امنيتي في المستقبل جعل الليطاني حدود
اسرائيل الشمالية".
الخبراء العالمون بخلفيات الأمور يؤكدون أن اسرائيل بدأت
الضخ من مياه الليطاني نحو مشاريعها ابتداء من العام 1978.
ثم ان اسرائيل تعاني نقصا ً هائلا ً في نظامها المائي (النقص
المقدر عام 1990 هو 340 مليون م3،) وفي العام 2000، سيصل
هذا النقص الى950 مليون م3.
السؤال المهم والخطير الذي يجب أن يفكر فيه كل لبناني هو:
ماذا كان دور اسرائيل في الحروب المندلعة منذ العام 1975،
والتي كان من أهدافها الرئيسية انهيار الدولة اللبنانية
كمقدمة لتسويغ السيطرة على مواردها الطبيعية وفي طليعتها
المياه؟! وفي ضوء هذا السؤال، اليس أن الجواب الوحيد هو
المقاومة الشاملة دفاعا ً عن وحدة الوطن، وحقوق الانسان
اللبناني، واستقلال وسيادة الدولة اللبنانية، وذلك بمواجهة
كل أطماع الغزاة، أيا كانوا، ومن ينفذون اراداتهم.