اللبنانيون من اشد الناس تشاطرا ً في السراء والضراء
فألفوا الاجتماع وولعوا به ترويحا ً للنفس وتفريجا ً للكرب
في الافراح. ومن عاداتهم فيها:
الخطبة
ان حب اللبنانيين لتكثير النسل حدا بهم الى العناية
بانتقاء زوجات ملائمات فلذلك حرصوا قديما ً على مراعاة
الخطبة واطالة مدتها للاختبار والتمازج ولا سيما عند
المسيحيين الذين يتعذر عليهم الطلاق والجمع بين اكثر من
زوجة في بيتهم. ولقد حرصت بعض الأسر على حفظ الزواج بينها
وبين من كانت من طبقتها فقلما تجد الامراء يتزوجون
بالمشايخ ولا هؤلاء بالعامة ولو كانوا من الاعيان. ولا
سيما الدروز فانهم اشد حرصا ً على عاداتهم من غيرهم. ومما
نعلمه من عاداتهم ان المقدمين آل مزهر في حمانا مثلا ً لا
يتزوجون الا من أسر خاصة يعرفونها بالتوارث وهي المشايخ آل
جنبلاط في المختارة وبكوات آل شمس في غريفه وحاصبيا وبني
حمدان في باتر وآل امين الدين في عبيه فحفظت المصاهرة
بينهم فقط ولم تتجاوزها الى غيرهم.
والدروز معروفون بشدة حرصهم على الخطبة في زمن الصغر حتى
قد تخصص الابنة حين ولادتها على اسم عريس لها لا تأخذ غيره
ولا يرضى بسواها فمتى بلغا تزوجا وقد يتزوجون صغارا ً.
ومن عاداتهم في الخطبة ان يرسل اهل العريس الى اهل العروس
رسولا ً في ذلك فاذا قبلوا طلبه يحضرون شيئا ً من الحلوى
كالزبيب ونحوه ويسمونه النعمانية فاذا اكلوها مع رسوله كان
ذلك تصريحا ً منهم بعقد الخطبة حتى انه لا ينفك بعدئذ. ومن
اساليبها الرمزية ان الامير محمدا ً الشهابي نزل مع والده
ضيفا ً على الامير يونس المعني سنة 1175م فخطب ابنته طيبة
هكذا وهو انه كان معه في حديقة جميلة الازهار فقال والده:
المياه عذبة. وقال محمد: والارض طيبة. فقال الامير يونس:
وانت طيب يا محمد. فقال الامير محمد: الطيبات للطيبين.
فاذا تمت الخطبة يرسل العريس الى قوم العروس من يكتب
الكتاب على صداق مهر معلوم فتصير زوجة له يحضرها متى شاء
ويتزوجها فان وافقته بقيت والا طلقها وتزوج بغيرها. اما
المهر فيتراوح الآن بين ثلاثمائة ليرة الى خمس مائة غرش
يدفعه الرجل للمرأة. ويمتنع على العريس ان يرى خطيبته
اثناء الخطبة الا في الأسر الممتازة. ويكون ذلك العقد بشرط
يكتبه الشيخ مشهودا ً به. وهكذا المسلمون يعقدون الخطبة
ولكن على غير الخطة المذكورة.
اما النصارى فيذهب اهل العريس الى بيت العروس ويتداولون
بالخطبة فاذا تمت يضعون علامة كخاتم ونحوه ويصلي الكاهن
وتدفع قيمة البائنة اي المهر في ذلك المجلس. ثم يتزاوران
ويصير العريس كأنه من بيت العروس ولكن بأدب وحياء ويحظر
على الخطيبة ان تزور بيت خطيبها قبل الزواج بل يعاب عليها
وقلما يجتمع بها على انفراد ويهاديها في المواسم والاعياد
الى زمن الزيجة ويجوز له تركها اذا حدث ما كدره او اذا لم
ترضه بطباعها وتصرفها. ولا يجوز عند الارثوذكس خطبة من
كانت دون الدرجة السادسة في القرابة وعند الكاثوليك دون
الخامسة وعند الدروز المحارم هم الاب والابن والاخ والعم
والخال. وعند المسلمين والشيعيين معروفون.
العرس
يذهب اهل العريس الى بيت العروس للمشاورة اي المداولة
بموعد العرس واعداد الحاجات ومتى تقرر الأمر تبدأ الدعوات
( العزائم) من الفريقين ويغسل العذارى العروس والشبان
العريس حاملين معهم الصابون وبعض الطيوب. ثم ترتب الماشطة
العروس ويعرف ذلك "بالبرزة" وهي كلمة فارسية بمعنى جلاء
العروس ليظهر جمالها وتنشد لها الاناشيد او "الجليوات"
ويزورها اهل العريس نساء حاملات لها ثيابها وجهازها. وليلة
العرس يجتمع الشبان عند العريس ويحيون الليل في القصف
والغناء وانشاد الزجل (المعنى) والضرب على الطنبورة او
الربابة ونقر الدف او الدربكة والعزف بالصلوب او المجوز (
نوع من القصب المجوف المثقوب) والمنجيرة (الشبابة) ونحو
ذلك. وتدار اطباق الزبيب والتين المجفف (المطبع). وترتفع
اصوات التراويد والزلاغيط ونحوها ولا يسوغ لهم ان يناموا
لاعتقادهم ان المتزوجين يخطفون عريسهم لانه صار احدهم. وفي
منتصف الليل تأتي ام العريس بقصعة من الحناء المجبولة
بالماء فيتحنون هم والعريس وترسل بعضها الى بيت العروس
والى الاصحاب ممن لم يحضروا السهرة. وقد يتكحلون ايضا ً في
بعض القرى. واذا شاء الشبان ان يناموا يمكنهم ان يفتدوا
العريس بخلعة ثمينة يرضون بها المتزوجين فلا يخشون بأسا ً
على عريسهم. ومن غريب العادات ان اليمنيين لما تقووا في
لبنان منعوا القيسيين من ان يقولوا في آخر الترويدة "هوبر"
بل كلمة "يا" حتى انقرضوا فعادوا اليها.
واذا تنفس الصباح حلقوا للعريس ورقصت احدى النساء بثيابه
وكانت العادة في القديم ان يستعيروا طاقم العرس للرجل
والمرأة من عند الغني في القرية الذي يقتنيها وكذلك
الادوات اللازمة. وقد يخلع الامير او الشيخ على العروسين
ثيابا ً يلبسانها بالعرس ثم تقدم له فيلبسها بمساعدة
الشبين الذي يقوم بكل الواجبات كما ان العروس تلبس بيد بعض
انسباء العريس من النساء ومتى ارتفعت اصوات التهاليل
والتراويد وكثر القصف وجاء المهنئون حان موعد جلب العروس
فان كانت العروس خارج البلدة ارسلوا "الفراشة" وهم رسل
يخبرون بقدومهم ثم يذهب "العراسة" والا فيذهب العراسة مع
والدي العريس بموكب حافل الى بيت العروس وهناك تجري بعض
مناقشات بشأن تردد العروس عن المجيء معهم ثم يقترحون عليهم
ان يصيبوا النيشان بالرصاص ويشيلوا القيمة وفي ذلك تعجيز
لا يخفى. وبما انهم عرفوا العادة تراهم يحضرون معهم شبانا
ً بارعين باطلاق الرصاص والاصابة به. وآخرين اقوياء العضل
لرفع القيمة وتكون غالبا ً جرن كبة في وسطه خشبة يقبض بها
ويرفع الى ما فوق الكتف واليد ممدودة به وقد يبلغ وزنه
ثلاثين رطلا ً والقيمات من ألعابهم في القديم فيتمرنون
عليها وتسمى الشيلة في بعض المواضع واذا لم يتمكنوا من رفع
القيمة واصابة الهدف استرضوا العذارى اللواتي مع العروس
بخلعة او هدية. وفي اثناء ذلك ينقل جهاز العروس الى بيت
العريس مكشوفا ً من مثل فرشة كاملة وطراحة او دوشك وصندوق
وبقج ثياب وبلاس او سجادة وبعض اوان مطبخية واشغال يدوية.
ثم عندما تخرج العروس تقف امام البيت وتصير حفلة النقوط
وهي دفع كل من ابويها واخوتها وانسبائها شيئا ً من الدراهم
وهناك رجل يسمى المشوبش يثني على كل منقط ويجمع الدراهم.
عادة التنقيط قديمة وكأني بها مساعدة للعريس يفيها مقسطة
اذ ينقط كل من نقطوه باوقاته قال شمس الدين الذهبي:
سماع غناء الطير للدوح مرقص ومن طرب بالزهر منه ينقط
وللناس في عرس الربيع مسرة وللخلق حتى القس فيه يزغلط
ثم يسير الموكب ومع العروس اشبينتها وهي كفيلتها واللفظة
سريانية وبعض نسيباتها فالدروز يأخذونها الى البيت فتجري
حفلة النقوط في بيت العريس كما جرت في بيت العروس. وحينئذ
يسأل الشيخ العروسين امام الجمهور اذا كانا على عهديهما
بالقبول بالزواج. ويتم العقد. وكذلك عند المسلمين
والشيعيين.
اما النصارى فينقلون العروس بموكبها الحافل الى الكنيسة
لتكليلها من يد الكهنة على عريسها وقد يجري ذلك في بيت
العريس او العروس ومتى تم الاكليل خرجوا بها من الكنيسة هي
والعريس ومروا بهما في البلدة والناس ترشهم بالقماقم
المملوءة ماء الزهر وترمي الزهور او الحلويات. وتكون
العروس غالبا ً راكبة على دابة ويداها مرفوعتان بمنديلين
تحيي بهما الناس. ولا يجوز الرجوع بها من الطريق الذي
ذهبوا به اولا ً لجلبها لاعتقاد انها تعود الى اهلها وكذلك
يتطيرون من جلبها يوم الاثنين للسبب ذاته. فتقف امام البيت
وتلاقيها حماتها بالبخور والقمقم والخلعة. ثم تصير حفلة
النقوط او التنقيط. ثم تضرب العريس ثلاث ضربات ببرتقالة او
رمانة وتنثر النقل على الجمهور وقد تنثر الدراهم على
الفقراء. ثم تلصق الخميرة فوق الباب بيدها ويتطيرون من عدم
لصقها. ثم تدخل وتجلس على مرتبتها العالية المعروفة
بالصمدة فترفع يديها بالمنديلين تحيي بهما الناس وتضع يدها
على رأسها. وهي خرساء لاتتكلم الا بعد اسبوع والاشبينة
تجاوب عنها. ثم يجلونها وينشدون لها الاناشيد (الجليوات)
ويكشف العريس وجهها اولا ً ولا سيما عند المسلمين والدروز.
ثم تدار اطباق الحلوى وكؤوس الخمر وتقام الاسرار وتشرب
الانخاب وتكثر عبارات التهانىء والتبجيلات. ويكون العريس
على مرتبة واطئة قبالة عروسه او في بيت آخر عند غير
النصارى ولا يزوره احد في هذا اليوم. ثم تبسط موائد الطعام
للمدعوين بحسب مراتبهم وحالة العريس.
وفي اليوم الثاني يأتي المباركون (المهنئون) بالتراويد
والتهاليل ويحيون العريس اولا ً ويحملون الهدايا وقد
ينقطون على اطباق النقل. وهكذا يبقى العرس من اسبوع الى
شهر واكثر. ويكثر فيه التصفيق بالايدي والرقص والقصف.
والعريس الآمر الناهي بالقوم.
ثم يذهب العريس بعروسته لزيارة بيت حميه ويسمونها "ردة
الرجل" وهناك يستقبل مع موكبه بالترحيب ويجلس هو وعروسته
على مرتبتين. ثم يجري القصف واللعب. وهناك عادة غريبة وهي
تعليق العريس برجله فتفتديه حماته باكلة او خلعة ونحوها
ومنها سميت ردة الرجل وقبلها تكون "الصباحية" وهي اخذ
هدايا وزيارة العريس من قبل اهل عروسه فتصير ردة الرجل
كانها رد الزيارة.
الطلاق والهجر
لا يجوز الطلاق عند المسيحيين الا في النادر واما عند
غيرهم فشائع لاسباب مشروعة. ولكن يصير عند المسيحيين الهجر
بدون ان يسمح لاحد الطالقين ان يتزوج بحياة الآخر فاذا مات
احدهما جاز له ذلك. وقد يجمع المسلمون والشيعيون بين
زوجتين او يردون المطلقة. اما الدروز فعادتهم غريبة اذ لا
يردون طالقا ً ولا يجمعون بين زوجتين. ويكون الطلاق عند
الدروز لاقل اشارة بسبب موجب فاذا قال لزوجته مثلا ً سيري
الى البستان ولم يقل وارجعي فهمت انها طالق. وقد يهجرها
ولا يتزوج بغيرها فتبقى زوجته. ومتى تزوج غيرها صارت طالقا
ً فتتزوج بغيره. والمطلقة تستتر من المطلق بحرص شديد كما
تتحجب المخطوبة عن الخاطب. والمطلقة لا ترد ولو تزوجت بآخر
بخلاف عادة المسلمين. واذا ندم الدرزي على الطلاق قد يتخلص
منه بانكاره التصريح بالطلاق اذا وافقته زوجته واما اذا
كان عليه شهود فلا حيلة له بارجاع زوجته فيسبق السيف العذل.
ومن اشد الضربات قسر احد الزوجين على الاقتران لدواع خاصة
مما يفضي الى الطلاق او الهجر.
مآدبهم
يتبادلون الدعوات (العزائم) في بعض الشؤون والمواسم
والزيارات وتعرف الدعوة عندهم باسم العزيمة يدعون اليها من
يشاؤون من الانسباء والأصحاب فيكثر هرجهم وتبادلهم
الاحاديث المختلفة اهمها التفاخر بذكر قدمائهم والتماجد
بنجاح احزابهم وكثيرا ًما يتناشدون المعنى (الزجل)
ويترنمون بالاناشيد الوطنيه الحماسية اهمها الحدو (الحداء)
و"التحورب" والمواويل والعتابا والميجانا ويشربون الانخاب
(الاسرار) لزعمائهم ومحالفيهم.
وموائدهم قديما ً كانت بسيطة ليست الا شيئا ً يمد على
الارض كجلد ونحوه يسمونه السفرة وقد يكون طبلية وهي مائدة
شبه الطبل واطئة توضع عليها الصحون الخزفية ويجلس حولها
المدعوون بحسب مراتبهم في السن والمكانة.
وقد لا يجلس اهل البيت معهم بل يخدمونهم بايديهم. ويقدمون
لهم المشاريب كالخمر والدخان والقهوة وهم ادباء في مآدبهم
حافظون لحقوق غيرهم ولكنهم احيانا ً كثيرو الالحاف بالدعوة
الى الطعام حتى انهم لا يقبلون عذرا ً لمن لم يشاركهم
بالطعام وقد يحسبون ذلك انتقاصا ً من قدرهم.
وحبهم للقرى معروف ولا سيما في لبنان الجنوبي حيث تكثر
عادات العرب ومجاوريهم كما تتغلب في الشمال عادات
الآراميين القدماء "ولكل امرىء من دهره ما تعودا" ومن
امثالهم: "اضرب بالسيف تتأمر واطعم خبز تتمشيخ" ويقولون "مالحنا"
اي كل ملحنا. وادوات موائدهم ترقت بتوالي الاعصر حتى صارت
على اتقنها عند الامراء والمشايخ والاعيان.
مسامراتهم
يجتمعون ساهرين الليالي ولا سيما في ايام الشتاء الطويلة
فيتماجدون بذكر السالفين وحوادثهم ويلتفون حول مدخنة في
زاوية البيت توقد فيها الجذوع والدخان يكحل العيون ويتخلل
اللحى فيسود السحنات فضلا ً عما ينبعث من الغلايين
واللفائف من الدخان وهم مولعون بشربه وقد يتنقلون في آخر
السهرات بشيء من الزبيب او التين المطبع (المقدد) والجوز
ونحوه.
ويسرجون اللقش وهو شظايا الصنوبر الراتينجية وزيت الخروع
او الزيتون بأسرجة فخارية وفي ليالي الصيف يتسامرون بضوء
القمر وكثيرا ً ما تكون مسامراتهم للتداول بشؤونهم الخاصة
من مثل تجنيد الرجال للقتال او كيد عدو او توزيع الضرائب
والاموال الاميرية او وضع ناطور يحرس العقارات كالكروم
والزيتون واشباه ذلك.
ويكون الرأي للشيوخ واما الشبان فينصتون لهم وقد لا تقبل
آراؤهم. وهم يتأدبون مع كبارهم في احاديثهم وعرف الدروز
بطلاقة اللسان وفصاحته من جرأة ادبية وتنسيق احاديث.
ولهم في حكاياتهم اساليب غريبة في سرد الاقاصيص وقد ترى في
بعضها بلاغة القاء تأخذ بمجامع لبك من التنسيق والضبط وصحة
الرواية والاسناد في النقل ولا سيما عن القدماء والأسر
والحوادث وقد يذكرونها بتواريخها مما يصغي اليه الصغار
والشبان ويتناقلونه خلفا ً عن سلف. وبذلك حفظت انباء
قدمائهم وانساب أسرهم واخبار مواطنيهم ووقائعهم. وهو مبدأ
التاريخ منذ القديم قبل تدوينه في بطون الاوراق.
ويجلسون القرفصاء او الأربعاء او يركعون ويخلعون نعالهم
اذا دخلوا البيوت ويضعونها خارج الباب او في عتبته.
ويقرأون الاقاصيص والروايات كأخبار بني هلال وعنترة وما
شاكل مترنمين باشعارها التي تكون غالبا ً عامية ويسمون ذلك
"تقصدنا ً" اي انشاد القصيد ملحنا ً. وقد يصرفون لياليهم
بانشاد المعنى (الزجل) والتحدث بالتبريج او كشف الكنوز
المطمورة واخبار الجن والعفاريت والخرافات.
وكثيرا ً ما يتعصبون لبعض اصحاب هذه الاقاصيص مثل ابي زيد
ودياب. وعنترة ومقري الوحش فيتناظرون ويتخاصمون.
ويلعبون بعض الالعاب منها "الورق" او الشدة واقدم العابهم
فيها "البحري" و "السكنبيل" او يتلهون بالمنقلة والدريس
واشباه ذلك.
اما الامراء والاقطاعيون فيتخذون لهم ندماء يصرفون اوقات
فراغهم معهم ويتعاطون الالعاب المروضة للعقل والصيد ولعب
الميدان من مروضات الجسد.
عاداتهم في احزانهم
ولهم عادات واعتقادات في احزانهم غريبة وربما كانت مجموعة
من عادات الامم القديمة وبعضها مصري وآرامي وعربي فمنها
في:
امراضهم
من اشد أوبئتهم القديمة الطاعون وكان يفتك فيهم فتكا ً
ذريعا ً وكثيرا ً ما قرض كثيرا ً من أسرهم. ولم يكن علاجه
عندهم الا بعزل المطعونين في اماكن بعيدة عن القرى ولما
اشتد طاعون سنة 1826م وامتد من يافا الى طرابلس وذاع امره
عقد الاطباء جمعيات في اوربة وارسلوا سنة 1828م اربعة
اطباء فرنسيين الى الشرق لامتحان الطاعون الآسوي فعالجوا
في طرابلس الشام اربعة وخمسين شخصا ً مات منهم واحد فقط ثم
زاروا الامير بشير الشهابي الكبير حاكم لبنان المشهور
وقدموا له صندوقين من الادوية لعلاجه والوقاية منه وكانوا
يضربون الحجر الصحي ولا سيما في طرابلس الشام حيث تفشى
وفتك ليخففوا من وطأته وانتشاره. ومن دعوات العجائز "طاعون
يقشه".
ومنها الجدري وهو مرض فتاك مشوه لم يعرفوا له علاجا ً غير
العزلة وبعض العقاقير واول من ادخل التلقيح على طريقة جنر
الطبيب الانكليزي مكتشفه القنصل بطرس لورلا قنصل النمسة
وغرندوقية توسكانا في بيروت فحمل اللقاح (المطعوم) سنة
1810م الى الامير بشير الشهابي الكبير فلم يثق بنفعه ولكنه
جربه ببعض خاصته اولا ً وارسلهم الى برجا ليخالطوا
المجدورين حيث كان المرض هناك فتاكا ً ولما تحقق نجاتهم من
العدوى تلقح هو واهل بيته وكان الدكتور يوسف برتران
الملقح.
ومن الامراض التي دخلت لبنان حبة حلب جاءت مع العسكر
المصري بزمن ابراهيم باشا وبقيت مدة في بشامون فسميت الحبة
البشامونية. فضلا ً عن الامراض الحديثة كالحمى القرمزية
وحمى مالطة والزهري واشباهها.
وكانوا يعتقدون ان الطب تجربة واختبار فلذلك قالوا: "اسأل
مجرب ولا تسأل حكيم" وكثيرا ً ما كانوا يعالجون بوصفات
العجائز والشيوخ بالضمادات والفصد والكي وتناول بعض
العقاقير الطبية والحقن وامثالها. او ينذرون للكنائس
والمعابد زيتا ً وشموعا ً وبخورا ً او ينقلون بعض العقاقير
النابتة في جدرانها فيفضلونها على غيرها او يحملون
الايقونات الى غرفة المريض ويطوقونه لاحد القديسين او
الأولياء ويقولون "آمن بالحجر تبرا". وقد يتركون بعض
الامراض بدون علاج كالفالج ويقولون "فالج لا تعالج".
وان اضطروا الى مشاورة طبيب جاؤوا باحد الدجالين من
الوطنيين او المغاربة الذين يطوفون القرى بالعقاقير او
بكتابة الحجب والتعاويذ او بالفصد والكي والحقن. وقد يكون
الاطباء كهنة فيكونون اقل ضررا ً ومثلهم الشيوخ. والطب كان
على طريقة ابن سيناء وكتبه مخطوطة الا القانون الذي طبع في
رومية منذ ثلاثة قرون.
واما عيادة المريض عندهم فواجبة ولا سيما الدخول الى غرفته
والضجة فيها والتدخين ومن اغرب معالجاتهم الكي بالراس لبعض
البثور التي تظهر في الوجه. والتمسيد او الدغدغة لوجع
المعدة. واحراق صوفة كلب ووضعها على جرح من عقره كلب.
واستخراج السم من لدغة عقرب او افعى بحجر السم في خواتمهم
او باستشارة الحاوي وهو الذي يربط الحية ويشفي من لدغتها.
وشفاء المصدور بتجريعه لبن اتان (حمارة) وانقاذ المذعور
(المرعوب) بتجريعه بول الانسان او بالتقسيم عليه والصلاة.
وابراء "الوتاب" وهو حالة عصبية بالقبض على عرق بين
الكتفين. وابطال الحازوقة (الفواق) باغضاب المصاب بها كأن
يقال له "سرقت" مما يوغر صدره. ورد العين ( الاصابة بها )
بالرقية والتبخر بأثر العائن (الصائب) الذي يعرف بسكب
رصاصة في صحن ماء بيد الراقي او الراقية والتأمل في الصورة
التي ظهرت وتطبيقها عليه. ومعالجة "بثرة العين" بان يشحذ
المصاب بها من سبع نساء اسمهن مريم ولذلك سموها الشحاذ
ويطعم ما شحذه لكلب اسود. وذبحة الاولاد او تذييبهم بأن
يمر احد الرعاة سكينه على عنقه ثلاثا ً. والتهاب اللوزتين
بتمسيد من خنق خلدا ً بيده. والحزازة (القوباء) في الجلد
بامرار قلم كاتب ابن كاتب على حواشيها بحبره في ايام
معلومة.
واذا احتضر العليل استقدم له الكاهن او الخطيب لاتمام
واجباته الدينية. وقد يستكتب وصيته قبل اشتداد الوطأة
عليه. فاذا اسلم الروح غسل عند المسلمين ومسح جسمه عند
غيرهم والبس ثيابه ومدد على شيء مرتفع. وادير الى الشرق
عند النصارى.
نوائبهم
اذا أصيب احدهم بنكبة او نائبة كخسارة امواله او فقد احد
اعضائه كالعين واليد والرجل وما شاكل اجتمعوا في بيته
يسلونه بقص الحوادث التي جرت للناس اعظم مما جرى له
فيهونون عليه مصابه. وقد يسعون له بالتعويض المالي مثل جمع
اعانة ونحوها لمساعدته واعالة اسرته والسعي له بعمل يوافقه
اذا كان مشوها ً فكثيرا ً ما يسلمونه اولادهم اذا كان
قارئا ً وكاتبا ً وحاسبا ً فيدرسهم كما شاهدت ذلك بعيني في
صباي ممن درست عليهم منذ خمس واربعين سنة. فانهم كانوا لا
يستطيعون العمل وأحدهم مقعد لا يستطيع حراكا ً فيحمل من
محل الى آخر. فسعى له اهل القرية بجعله معلما ً لاولادهم.
وقد تكون المساعدة من الامير او الاقطاعي الذي ينتمي هو
اليه بدراهم ونحوها. ومن اساليبهم في تعزية المنكوبين بفقد
المال قولهم "اللي بيتعوض ما هو خساره" و"بالمال ولا
بالرجال" و"اللي ماله ما بيروح له". وللمنكوبين بالتشويه
يقولون : "نشكر الله اللي ما هو اعظم" و"اشد الاوجاع
الحاضرة" و "لا تكبر مصيبتك بتصغر".
المآتم
عندما يموت احدهم ويغسل جسمه عند المسلمين ويمسح بالماء
عند غيرهم يرفع على شيء عال وترتفع اصوات المناداة والعويل
والندب. وتجتمع النساء حوله ولا سيما "الندابات" وقد يحل
شعر النساء وتسود (وتشحر) وجوههن عند بعض الملل وقد يقطع
شعرهن ويلقى على الجثة او تشق الاثواب كعادة العبرانيين
وقدماء المصريين وتلدم الصدور. وبايديهن المناديل يلمعن
بها الى الجثة.
اما رؤساء الدين فعند المسيحيين لا يجوز الندب او العويل
على رأس بطريرك او اسقف او كاهن ولا تستلقى الجثة بل تجلس
في كرسي وعليها البدلة (الثوب الديني) ويوضع الصليب في
اليمنى ويربط فيأتي المعزون ويقبلون الصليب ثم يد الميت
وتوضع الجثة في الكنيسة لا في البيت الا لداع ضروري. وعند
الدروز اذا كان الميت عاقلا ً او جويدا ً يلبس ثوبا ً ابيض
خاصا ً به وعمامة بيضاء وكذلك شيوخهم من شيخ عقل او شيخ
خلوة او مجلس. ولا يندب قط وتكثر عليه الرحمات. اما الجاهل
منهم فيترحم عليه مرة او لا يترحم عليه البتة والعاقل
المرتاب به يكون بمثابة الجاهل احيانا ً. ونساء الدروز قد
تكشف وجوههن اذا لم يدخل رجال الى قرب الجثة لتعديد صفات
الميت والتأسف عليه. ولا تحل شعرها ولكنها تتعصب بالسواد
شأن بقية النائحات من جميع الطوائف. ويكثر الندب من النساء
والرجال والتحورب ورقص السيف لهما الا عند الدروز فلا يجوز
للنساء ان يرقصن بالسيف.
النعي
ويعرف في اصطلاحهم بتفريق المناعي وذلك بان يرسل رسول
ينبىء بموت المنعي ووقت دفنه ويعم النعي او يخص بحسب درجات
المتوفى من طبقات الشعب وارادة انسبائه. والمدعوون للمآتم
يردون زرافات زرافات ويبدأون من اول القرية بالمناداة
والبكاء والندب والتعديد الى ان يلتقوا برجال الميت رافعين
النعش المسمى عندهم بالمعتم (تحريف مأتم) على الراحات وهو
مزين بألبسة الميت واسلحته حسب رتبته وقد يثقل بقطعة حديد
ونحوها فينادونه ويعددونه ويسلمونهم النعش فيأخذه القادمون
ويطوفون به على الراحات ويبقون كذلك الى ان يأتي اهل قرية
اخرى فيأخذونه منهم عندما يلاقونهم به. وكلهم يعددون الميت
ويعزون اهله.
قلم الخيل
اعتاد الامراء والاعيان في مأتمهم ان يقلموا الخيل وذلك
يتم باسراج جواد او اكثر الى اربعة عند الامراء والمشايخ
ويضعون عليه طقم (كساء) الميت وسيفه وقربينته وبعض اسلحته.
ويقود الجواد رجل قد يكون راكبا ً او راجلا ً. وقد يقف على
جانبي كل جواد رجلان بيد كل منهما سيف مسلول فوق ظهر
الجواد فيطارد الجواد ويضرب ويطاف به حول البيت او الساحة
وهكذا تبقى المناحة والجثة في البيت يوما ً او يومين
احيانا ً ليجتمع اهل القرى المدعوون او الانسباء البعيدون.
ويجوز قلم الخيل لشيخ العقل عند الدروز ولا يجوز لرؤساء
الدين والكهنة عند النصارى.
الدفن
ثم ينقل الميت محمولا ً على النعش او في تابوت بذلك الموكب
الحافل فالنصارى تتقدم جثة ميتهم الكهنة بحللهم الكهنوتية
وامامهم الصليب وهم يلحنون تسابيح معلومة. ثم النعش
واقرباء المتوفى محدقون به والبكاء والندب والمناداة تقاطع
اصوات التلحين. واما الدروز فينشد شيخهم البردة للبوصيري
التي مطلعها.
وطائفة ترد عليه باصوات حزينة. وتكشف الجثة او تغطى عند
الطوائف حسب الاحوال والمسلمون والشيعيون ينشدون الفاتحة
مكبرين على عاداتهم في سورية. والشيعيون قد يغسلون الجثة
على القبر لئلا تتنجس بمس احد لها وهي عادتهم في كثير من
شؤونهم. فالنصارى ينقلون الجثة الى الكنيسة حيث يصلى عليها
وتنقل الى المدفن. والمسلمون يصلون عليها في الجامع. واما
الدروز فينقلونها الى المقبرة رأسا ً حيث يوارونها الثرى.
فالنصارى يصب كاهنهم على الجثة قبل رد التراب عليها من زيت
القنديل الموقد في الكنيسة شكل صليب وكذلك يذري حفنة من
تراب بعد تلاوة صلوات وتبخير بالمبخرة. والمسلمون يقرأون
بعض آيات وكذلك الشيعيون. واما الدروز فيهمس الشيخ في اذن
الميت كلمات سرية للعاقل والجاهل من ذكور واناث. فالعاقل
يزكى علنا ً عندئذ وتستمطر عليه الرحمات ثلاثا ً. واما
الجاهل او المتجاهل من العقال فلا يزكى جهارا ً حضا ً
للناس على اتيان الخير والبعد عن المنكر. ويتلى عندهم صك
وصية الميت على القبر بعد الدفن على مسمع الجمهور وهم
غالبا ً يوصون للذكور من اولادهم واعقابهم او لبعضهم دون
بعض. اما الاناث فيوصون لهن براتب يدفع لهن اذا خلون من
الزوج فلذلك يندر ان تكون المرأة منهم غنية.
وقد تتلى وصية الموت عند بعض الطوائف على المقبرة او في
البيت قرب الجثة او في الكنيسة والجامع مثلا ً. ثم ينعزل
اهل الميت الى جهة فيمر امامهم المعزون ويعزونهم جابرين
خواطرهم المنكسرة. وقد يزورنهم في البيت مرارا ً يسلونهم.
الحمل والدعوة
من العادات الشائعة عند جميع طوائف لبنان ان اهل الميت لا
يصنعون طعاما ً في ايام المأتم ابدا ً الا الامراء ونحوهم
من الطبقات التي تأبى الحمل والدعوة الى بيوت اهل القرية.
فلذلك يأخذ اهل القرية المدعوين من خارجها كل حسب استطاعته
الى بيته. ويدعى كذلك اهل الميت الرجال لتناول الطعام عند
الداعين. ثم تحمل نساء كل بيت من القرية واحيانا ً من
جوارها الى بيت المتوفى اطباقا ً عليها اصناف المآكل
والخبز وذلك يسمى "الحملان" او الحمل فيأكل النساء ومن
يبقى في البيت من الاقارب. وكان هذا العمل يستمر اسبوعا ً
كاملا ً تخفيفا ً على عاتق المحزونين ليتفرغوا للقيام
بمأتمهم من الحزن والندب وما شاكل.
وقد يبقى المأتم اياما ً بحسب وفود المعزين ومنزلة الميت.
وقد يحمل المدعوون من القرى المجاورة هدايا لاهل الميت
كحيوانات للذبح وارز وسكر وبن.