أتقدم بالشكر الخالص من جامعة الروح القدس لتشريفي بالدعوة
الى القاء هذه المحاضرة. وأنا أتطلع بثقة الى مستقبل هذا
المعهد الكريم، والى الخدمات الجلى التي ستنبثق منه في
العلم والمعرفة والروح.
يسرني أن أتحدث عن "لبنان، كيانا ً ومصيرا ً في هذا المعهد
العلمي العالي. ذلك لأني متأكد أن جو الجامعة يعبق
بالحقيقة والتواضع والمحبة والحرية المسؤولة والاحترام
المتبادل. وثمرة هذا الجو هو الفرح الداخلي العظيم.
بحثي ليس بحثا ً تاريخيا ً، أو شعريا ً، أو خياليا ً، أو
سياسيا ً بالمعنى الضيق. هذه كلها أبحاث محترمة،لكنها لا
تقع في نطاق معالجتي. وجهة نظري من أساسها فلسفية انسانية
كيانية، تقفز الى الحقيقة وتقبض عليها. والذي لا يعرف هذا
الضرب من النظر، ولم يعتد على البحث الكياني الدقيق الصارم،
حيث الانسان في وجوده وعدم وجوده هو الموضوع، قد لا يفهمني
أو قد يسيء فهمي.
الموضوع "لبنان، كيانا ً ومصيرا ً". لبنان دولة مستقلة،
ذات سيادة، يعترف باستقلالها وسيادتها العالم كله. حديثي،
اذا ً، لا عن كيان موجود في الذهن فحسب، بل بحث عن كيان
دولي موجود بالفعل. بحث ممكن وشريف، غير أن بحثا ً كهذا
ليس موضوعي الآن. ثم ان الموجود في الذهن فقط، لا يوجد
بالفعل، اذ يوما ً ما وجد، الا من خلال موجود بالفعل
وبواسطته وعلى أساسه. الموجود بالفعل يبرره مجرد وجوده،
أما الموجود في الذهن فقط فهو الذي يحتاج الى التبرير.
فلولا تضافر مقومات حقيقية للموجود بالفعل لما وجد أصلا ً.
لولا انه يريد وجوده هو ولولا أن العالم يرضى بهذا الوجود
لما وجد أصلا ً. وأنا بالطبع أفترض أن تضافر هذه المقومات
الحقيقية بالنسبة للبنان سيستمر، أي ان ارادته البقاء ورضى
العالم بوجوده باقيان. لذلك موضوعي الذي أتحدث عنه، المسند
اليه، المحمول عليه، في كل ما أقول، هو كيان حقيقي، قائم،
ثابت، مستقل، باق، يريد لذاته البقاء ويعترف له العالم بحق
الوجود وحق البقاء.
أن نقول ان شيئا ً ما موجود بالفعل يعني أن هذا الشيء
يتميز عن غيره تمييزا ً قاطعا ً، والا لما وجد بالفعل. اذا
كان الموجود مجرد امتداد للغير فلا يعني شيئا ً مميزا ً عن
الغير. عندئذ يسقط عنه وجوده المستقل، وبالتالي لا يعني
شيئا ً بعد ذاته. وبما أننا في حضرة كيان مستقل موجود
بالفعل، هو لبنان، وجب أن يكون ثمة ما يميز هذا الكيان
تمييزا ً قاطعا ً عن الغير.
ولذلك يطرح السؤال نفسه فورا ً: ما هي الخصائص التي تحدد
لبنان في ذاته، وتميزه تمييزا ً حاسما ً عن الغير، بحيث
اذا قلت لبنان، عنيت هذه الخصائص بالذات، واذا سقطت هذه
الخصائص بالذات، زال لبنان؟ انها عشر.
هذا الجبل الفريد
القرية اللبنانية الفذة
مركز لبنان السياحي الممتاز
تجارته العالمية العجيبة
ظاهرة الاغتراب اللبناني بكل ما تعنيه تاريخيا ً وكيانيا ً
التواجد المسيحي الاسلامي السمح الرائع
الحرية الكيانية المسؤولة
الانفتاح على العالم في المكان والزمان
معنى لبنان الفكري المتواضع في الشرق الأوسط وفي العالم
اسهام لبنان المتواضع في المعترك الدولي
يعني لبنان، أولا ً، هذه الجبال الفريدة من نوعها في الشرق
الأدنى، هذه الطبيعة التي حباها الله جمالا ً يكاد يكون
فوق أي جمال طبيعي، هذا المناخ المعتدل الذي يؤمه القوم من
جميع أطراف الشرق الأدنى للراحة والاصطياف والاستجام.
لا يوجد بلد في الشرق الأوسط، وقد يندر أن يوجد بلد في
العالم، يسيطر فيه الجبل على حياة الانسان وذهنيته ووجهته
ومصيره، كما يسيطر جبل لبنان على حياة اللبنانيين وذهنيتهم
ووجهتهم ومصيرهم. فيكاد لبنان وجبل لبنان أن يكونا مرادفين.
وقد عنى جبل لبنان، تاريخيا ً وكيانيا ً مناعة ًوفصلا ً
بالنسبة للصحراء، واتجاها ً وانطلاقا ً نحو البحر الأبيض
المتوسط. وهذا المعنى حسم مصيره الى حد بعيد.
بالجبل والطبيعة، اذا ً، يتميز لبنان تمييزا ً تاما ً عن
غيره، وبدونها لا يوجد لبنان.
يعني لبنان، ثانيا ً، قريته الفذة. القرية اللبنانية تدمغ
الطبع اللبناني وتميزه عن غيره. فلا يوجد مجتمع ريفي في
الشرق الأوسط يشبه المجتمع القروي اللبناني، لا سيما في
الجبال، مع أن بعض الشبه نجده في القرية السورية والقرية
الفلسطينية. في القرية اللبنانية فرح ومرح وسلام نفس
وتواصل تراث. هنا الخلق الصلب المتين. هنا الزمن بألوف
سنيه يصب خبرته ويختزنها، شهادة على أن الانسان في هذه
الأرض اكتشف وقدر وحفظ. هنا الأعياد والاعراف تتلاحق بهدوء
من مناسبة الى مناسبة، ومن فصل الى فصل، وموسم الى موسم.
هنا "الكنكنة" العائلية الهنيئة. هنا العافية والعمر
الطويل. هنا السلام والركون الى الاسباب الأولى البسيطة.
هنا حتى الخطيئة مغفورة لأنها تصنع ببراءة، ولأن الانسان
غير ماكر وغير معقد وغير متمرد في صنعها. لبنان، في الدرجة
الأولى، بقريته. وهكذا فعندما يفكر العالم العارف، بلبنان،
فمن أول ما يفكر به قريته الهادئة الهنيئة الوديعة الطافحة
بشرا ً وفرحا ً وصحة ومتانة. والذي لا يعرف حياة القرية،
بأصالتها وعمقها وزخورها، لا يعرف وجها ً أصليا ً خلاقا ً
من أوجه لبنان. وأكاد أقول لا يعرف لبنان.
حياة القرية لا تفهم وتقدر الا بخلفية العيش والطبيعة. ابن
القرية يعيش بالطبيعة وعليها، بقدر ما يعيش في مجتمع "مكنكن"
صاخب بالقيم والأعراف الانسانية. فاذا جردت ابن القرية عن
الطبيعة الملتحم بها، جردته عن نفسه. فلكي تفهم مميزات
لبنان التي تجعل منه كيانا ً خاصا ً عليك أن تتذكر خلفيته
الطبيعية والمعيشية.
تذكر أجراس الكنائس تنقل دقها الفرح ودقها الحزين من ضيعة
الى ضيعة عبر الهضاب والبطاح.
تذكر رائحة التراب اثر الشتوة الأولى.
هذه بعض الخلفيات الطبيعية والعيشية التي لولاها لما وجد
خلق لبناني متين عنى شيئا ً للعالم، ولما كانت شكيمة
لبنانية أنوفة لعبت دورا ً خلاقا ً متواضعا ً.
بالقرية وحياة القرية، اذا ً، يتميز لبنان تمييزا ً تاما ً
عن غيره، وبدون القرية وحياتها لا يوجد لبنان.
يعني لبنان، ثالثا ً، مركزا ً سياحيا ً ممتازا ً. يعني
آثارا ً مدنية ً انسانية ً متراكمة ً لسبعة آلاف سنة أو
يزيد، في كل متر مربع تقريبا ً من أرضه. يعني بيبلوس وصور
وصيدا وبعلبك وبيروت وقلعات الصليبيين. يعني الأرز. وكل
واحدة من هذه تنطوي على أبعاد من الدلالة والمغزى يذهل بها
العقل. الشرق الأدنى يحفل بالآثار، لكن بيبلوس وصور وبعلبك
والأرز تميز لبنان، عالميا ً وكيانيا ً، عن أي آثار أخرى،
بيبلوس من حيث اصول الكتابة والمدنية والأديان. صور من حيث
الانفتاح العريق على العالم المتوسطي، بعلبك من حيث
العناية والحذر الروحيان الفائقان اللذان أولاهما الرومان
لهذه الأرض، من حيث صلة لبنان الحميمة بالعهد القديم روحيا
ً في التاريخ. مغزى بيبلوس وصور وبعلبك والأرز، ومغزى
الاقرار في الميثولوجيا الأوروبية ذاتها بأن "أوروبا" التي
سميت القارة باسمها، هي أميرة فينيقية، فتن بها الاله زوس،
فاختطفها وقفز بها الى قارته التي كانت آنذاك تتخبط في
ظلمة دامسة، مغزى هذه جميعا ً، اذا تأملناها بعمق، هو
الشهادة ان اتصال لبنان الخلاق العضوي بالغرب ليس وليد
الأمس، وليس عرضا ً من أعراض أي انقضاض "استعماري" جاءه من
الخارج أو أي مؤامرة "استعمارية" حيكت له في الغرب، انما
هو جزء لا يتجزأ من كيانه التاريخي الطويل، تقطعه وعلى
مأسأويته.
بآثار لبنان العريقة المتراكمة التي تدل على استمرارية
المدنية فيه لعشرة آلاف سنة، وعلى فعلها الخلاق في المدنية
الغربية وتفاعلها المتواصل معها، يتميز لبنان تمييزا ً
تاما ً عن غيره، وبدون تواصلية مدنية لا يوجد لبنان.
يعني لبنان، رابعا ً، هذه التجارة اللبنانية العجيبة
المنتشرة في شتى أنحاء المعمور. حيث تذهب في العالم تجد
لبنانيين يتاجرون ويتوسطون ويقومون بالخدمات، وأحيانا ً
يعقد اللبناني صفقاته التجارية الضخمة في أقصى أرجاء
العالم، بدون أن ينتقل من مكتبه في بيروت. ولا يوجد بلد في
الشرق الأوسط يتسم بالتجارية والوساطية والخدمات كما يتسم
بها لبنان.
التاجر رجل شريف، والتجارة بما تعنيه من توسط بين المنتج
والمستهلك، عمل وخدمة شريفان. لكن الروح التجارية، اذا
وحدها كانت المسيطرة على ثقافة الشعب وسعيه، تخلق روح
الكسب الرخيص، روح اللذة من أجل اللذة فقط، روح المغامرة
اللارصينة، روح التواكل على السحر والحظ والتعويذ، وتبعد
النفس عن معرفة طبائع الاشياء، وتماسكها، وتشابكها بعضها
ببعض، من حيث السبب والمسبب. وتسمى هذه الروح "الخلق
الليفنتيني"، وهي عبارة قدح وتعيير، بقدر ما تدل على
السطحية والشهوانية وعدم الترسخ في الأصول والجذور. من هنا
أهمية الصناعة لترهيف الروح التجارية وتكميلها.
تجارية لبنان العريقة، المستنبطة، الهائلة، تطبعه بطابع
مميز، وبدون هذه التجارية لا يوجد لبنان.
يعني لبنان، خامسا ً، هذه الهجرة اللبنانية العالمية.
الهجرة اللبنانية في التاريخ القديم شيء، والهجرة
اللبنانية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين شيء آخر.
الهجرة الأولى أعطت شيئا ً خلاقا ً، أما الهجرة الأخيرة
فاتصفت في الغالب بأخذها أكثر من عطائها. هذا الفرق
الأساسي بين الهجرتين يكشف عن مغزى انساني تاريخي كياني
عميق.
بشأن الهجرة الأخيرة، منذ انطونيوس البشعلاني (1858) من
صليما حتى يومنا هذا، لا أظن أحدا ً يعرف علميا ً حقيقة
الهجرة الاحصائية، لكن قد يكون الادعاء صحيحا ً أن عدد
المغتربين، أو عدد المنحدرين من أصل لبناني في الخارج،
يفوق عدد المقيمين. أياً كانت حقيقة هذا الأمر، فالاغتراب
اللبناني ظاهرة لبنانية مميزة.
ظاهرة الاغتراب فخر وعيب ومأساة في آن واحد، فخر لما حققه
مغتربونا في بلدانهم الثانية، بعصاميتهم ورائديتهم، من شأن
وانجازات. عيب لأن لبنان الوطن الأم لا يوفر لهم أسباب
العيش فيضطرون الى النزوح، مأساة، ليس فقط للآلام المبرحة
التي تنزل بنفس المغترب اللبناني، بل لسبب الكيان الانساني
- المأساة الناجم عن هذه الهجرة. القصة الكيانية للاغتراب
اللبناني بجميع أبعادها الانسانية الروحية لم تكتب بعد.
غير ان خير ما قرأت في هذا الصدد مقال للأب هكتور الدويهي
نشر في ملحق النهار في 1 آب 1971.
وقد أخذ الجيل الثاني والثالث المغترب يتبوأ أرفع المراكز
في حقول العلم والصناعة والتجارة والسياسة والطب والزعامة
الوطنية والمهن الحرة. ففي اميركا اللاتينية مثل لبنانيون
كثيرون مواطنيهم في المجالس النيابية، وبعضهم أصبحوا وزراء.
وفي الولايات المتحدة يوجد الآن في الكونغرس أربعة ممثلين
من أصل لبناني، شيخ وثلاثة نواب. وفي المهن الحرة يكفي ان
اذكر اسماء الدكتور فيليب حتي والدكتور ميشال دبغي وداني
طوماس ورالف نادر.
حاولت وتحاول الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم ان
تقرب بين لبنان ومغتربيه. غير أن هذه المحاولات ما زالت
بدائية. فمجالات تحبيب المغتربين بوطنهم الأم، وتوثيق
عراهم به، أوسع جدا ً مما يتصور المستهزئون المشككون.
نحتاج لهذه الغاية اخلاصا ً وجدية وطهرا ً أكثر مما بدا من
الحكومة والمشتغلين في هذا الحقل حتى الآن. فقد تنشأ أزمات
مصيرية يأتي فيها المغتربون بالعون للبنان أكثر حتى مما
يأتي به المقيمون. غير ان شرط هذا الاتيان ان تنتظم علائق
المغتربين بعضهم مع بعض، وبينهم وبين لبنان، وان يمكنهم
لبنان، بالوحدة الداخلية وبالجدية الحكومية، وبشتى الوسائل،
من محبتهم اياه.
التعمق الحقيقي في أمر الاغتراب اللبناني يقتضي التأمل
المسؤول في قول جبران "رجعت رجوع كل لبناني، من غربة الى
غربة"، وفي قول كل قديس في التاريخ، من بطرس الى يومنا هذا،
اننا جميعا ً غرباء في هذه الحياة. والمهم ان نعرف "غرباء
عن ماذا؟" و"غرباء عن من؟" قد يكون للهجرة اللبنانية، اذاً،
معنى وبعد اعمق بكثير مما يتصور المحللون الاقتصاديون
والاجتماعيون والسياسيون.
الاغتراب اللبناني، بسعته وكثافته ومغزاه، يطبع لبنان
بطابع مميز، وبدون هذه الظاهرة في جميع العصور لم يوجد ولا
يوجد لبنان.
يعني لبنان، سادسا ً، هذا التواجد المسيحي - الاسلامي
الرائع. لا اعرف تواجدا ً صادقا ً حرا ً مثله في التاريخ.
واذا كان الأمر كذلك، فلأن الاسلام دين عالمي كبير، ولأن
المسيحية أيضا ً دين عالمي كبير، فأن يتواجد الدينان معا
ً، سلميا ً، بحرية ومساواة، في بلد واحد، في ظل نظام واحد،
هذا لعمري شيء عظيم في التاريخ.
هنا لا ينظر المسيحي الى مواطنه المسلم انه دونه في القدر
والكرامة، ولا ينظر المسلم الى مواطنه المسيحي انه دونه في
القدر والكرامة. هنا يشعر المسيحي انه في بيته تماما ً، من
حيث عاداته وتقاليده وثقافته، من حيث اتصالاته بالعالم
المسيحي، من حيث حرياته المسيحية الكيانية، تماما ً كما
يشعر أي مسيحي في أي بلد مسيحي في العالم، في فرنسا أو
اسبانيا أو المانيا أو ايطاليا أو بريطانيا أو اميركا،
ويشعر المسلم كذلك أنه في بيته تماما ً، من حيث اتصالاته
بالعالم الاسلامي، من حيث حرياته الاسلامية الكيانية،
تماما ً كما يشعر أي مسلم في أي بلد في العالم، في مصر أو
السعودية أو العراق أو ايران أو الباكستان أو اندونيسيا،
اللحظة التي يبطل فيها هذا التساوي الكياني بين المسلم
والمسيحي في لبنان يبطل لبنان. واذا تأملنا هذا الحدث
الواقع الفذ، بدقة وانعام نظر، وسبرنا غور مغزاه الحضاري
والروحي والكياني، ألفينا أنفسنا أمام ظاهرة من أعجب
ظاهرات التاريخ، وأروعها، وأشدها خصبا ً في أبعاد المستقبل.
شيء كهذا لم يحدث بعد في التاريخ.
أنا أشعر، وكل مسيحي يجب أن يشعر، أنه، كلبناني، يستطيع أن
يتصل اتصالا ً حميما ً بمسيحيي العالم عبر الزمان والمكان،
وان يتعمق، كلبناني، في مسيحيته، ويعيشها، ويكونها، تماما
ً كما عاشها وكانها بولس وأوغسطينس والذهبي الفم والدمشقي
والأكويني، ولذلك ليس فقط شخصيا ً وبالسر، بل في عائلته
وبيئته ومجتمعه وعاداته وأدبه وحياته وقريته ومدينته وعلى
رؤوس الاشهاد. والشيء ذاته يجب على كل مواطن لبناني مسلم،
بصفته لبنانيا ً، ان يعيشه ويكونه، تماما ً كما عاشه وكانه
علي والغزالي والأشعرى ومحمد عبده، وذلك أيضا ً ليس فقط
شخصيا ً وبالسر، بل في عائلته وبيئته ومجتمعه وعاداته
وأدبه وشعره وحياته وقريته ومدينته وعلى رؤوس الاشهاد. هذا
دور عالمي تاريخي هائل يلعبه لبنان اليوم.
أريد، أنا اللبناني المسيحي، أن أقول في حضرة المثلث
الرحمات، قداسة البطريرك أثناغوراس ومعه، أريد أن أقول "نحن
الأرثوذكس" متحسسا ً بصدق واخلاص جميع مشاكل الارثوذكس
ومشاعرهم في العالم كله، كما أريد أن أقول، وفي حضرة رئيس
أسقف كانتربري ومعه، وفي حضرة رئيس المجلس الوطني للكنائس
في اميركا ومعه، اريد أن أقول "نحن المسيحيين"، متحسسا ً
بصدق واخلاص جميع مشاكل المسيحيين ومشاعرهم في العالم كله.
هذا ما يريده كل لبناني مسيحي وهذا ما بامكانه عمله بالفعل.
ولا يعيقه عن عمله اي اعتبار اجتماعي أو سياسي أو قومي.
وأنا، كلبناني مسيحي، أريد أن يقول أي لبناني مسلم في حضرة
أي زعيم مسلم ومعه، في مصر أو السعودية أو ايران أو
الباكستان، أريد أن يقول، "نحن المسلمين"، متحسسا ً بذلك
بصدق واخلاص جميع مشاكل المسلمين ومشاعرهم في العالم كله.
أريد ان يقول المسيحي والمسلم، كل من ناحيته، هذا القول
وأن يبقيا مع ذلك اخوين مواطنين لبنانيين مخلصين محترمين
بعضهما لبعض.
في اللحظة التي يستحي فيها المسلم في لبنان، أو يتحفظ، في
الشهادة التامة لايمانه الاسلامي، يختل وجود لبنان. وفي
اللحظة التي يستحي فيها المسيحي في لبنان، أو يتحفظ، في
الشهادة التامة لايمانه المسيحي، يختل وجود لبنان.
أنا اتكلم كلبناني مسيحي، وأترك لأخي اللبناني المسلم أن
يتكلم هو، بحرية تامة، عن ايمانه. فكلبناني مسيحي اقول، في
اللحظة التي لا استطيع فيها، أو استحي، ان اشهد بحرية تامة،
وعلى رؤوس الاشهاد، اني اؤمن ايمانا ً جازما ً بحقيقة
التجسد التاريخي، وبيسوع المسيح كمخلص للعالم كله، وبقوة
الصليب، وبالكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية،
وبتراث القديسيين المتواصل المتراكم، وبأن الله، قبل كل
شيء، طهارة وقداسة ومحبة وفرح وخلق وحرية، وبأن أهم شيء في
الوجود هو الشخص الانساني، وبأنني لا أستطيع أن أكون ذاتي
الا بالاتصال العضوي التاريخي الدائم بتراث القديسين، في
الشرق والغرب على السواء، وبالمراكز الفعالة التي تحيا هذا
التراث، في اسطنبول، واثينا، وروما، وموسكو، وميونيخ،
وباريس، وتيبنغن، ومدريد، واكسفورد، وتورونتو، ونيويورك،
وبوسطن، وريو دي جنارو، في اللحظة التي لا استطيع أن أشهد
وأكون هذا كله، بحرية تامة وعلى رؤوس الاشهاد، في تلك
اللحظة يختل وجود لبنان.
وأنا أناشد أخي المسلم بمحبة تامة، أن يشهد هو لما يؤمن به
بحرية تامة، وان يؤكد على ضرورة اتصاله العضوي الدائم
بالمراكز الفعالة في العالم كله التي تجسد وتحيا ايمانه
وتراثه.
قد يظن البعض ان المسيحية والاسلام "نظامان" فكريان
واجتماعيان تخطاهما الزمن، وأن ثمة "أنظمة" جديدة، في
الفكر والحياة والمجتمع، هابطة علينا، أو نابعة منا، ستحل
محلهما. في تلك الحال سينسى المسيحي مسيحيته والمسلم
اسلامه ويتحدان في دين جديد. انا لا اشاطر هذا الرأي، وذلك
لسببين:
أولاً، اذا قابلت "الأنظمة أو الأديان" الجديدة النابعة
منا أو المنقضة علينا بالاسلام والمسيحية، ألفيتها جميعا ً
سطحية بالنسبة لهذين الدينين. التراث الابراهيمي أعمق،
وأكثر أصالة، وأشد اشباعا ً لعطش النفس الكياني، من "نظام"
أو "دين" مادي أو اقتصادي أو اجتماعي أو قومي جديد.
وثانيا ً ان مصير المسيحية والاسلام لا يتوقف علينا في
لبنان، بحيث حتى اذا تمكنا من صهر هاتين الديانتين في "دين"
أو "نظام" ثالث جديد زالتا من الوجود في العالم كله: مهما
"نفض" المسيحي من مسيحيته في لبنان، ومهما "نفض" المسلم من
اسلاميته، تبقى المسيحية حية نابضة ويبقى الاسلام حيا ً
نابضا ً في غير هذه الديار، وبقاؤها هذا يتحدانا من جديد
ويذكرنا بما كناه وما تركناه. مصير المسيحية بيد المسيحية
لا بيد لبنان، ومصير الاسلام بيد الاسلام لا بيد لبنان،
وكلاهما أوسع نطاقا ً وأشد عمقا ً من اي شيء يحدث في لبنان.
ان يزعم البعض ان باستطاعتهم الغاء المسيحية والاسلام من
الوجود وابدالهما "بدين" آخر، هذا الزعم يدل على جهل
لطبيعة المسيحية وطبيعة الاسلام.
مجالات التعاون والتفاهم بين المسلم والمسيحي في لبنان لا
حد لها. يتعاونان ويتفاهمان في السياسة والمجتمع والعلم
والفن والاقتصاد والمشاريع والحياة الواحدة العامة، في
الخلق الأدبي والفكري، في الشؤون الاخلاقية، في هذه اللغة
العربية العظيمة، في كل ما يمت الى العقل والانسان
والطبيعة، في الاسلامية الانسانية العظيمة الممثلة في آيات
من القرآن لا حصر لها، وفي أحاديث شريفة لا حصر لها، وفي
التراث الفلسفي والصوفي الاسلامي العربي الكبير. ويتعاونان
ويتفاهمان كذلك، في مجابهة مصير لبنان والعرب والشرق
الأوسط معا ً. وتوجد مجالات هامة كذلك للتفاهم حتى في بعض
الشؤون العقائدية الدينية، شرط ان يكون كل منهما مخلصا ً
غير منافق لدينه ومعتقده، محترما ً دين الآخر ومعتقده.
لذلك، فالتواجد الاسلامي - المسيحي الحر السمح يميز لبنان
تمييزا ً تاما ً عن غيره، وبدون هذا التواجد لا يوجد لبنان.
يعني لبنان، سابعا ً، الحرية. لا اقصد بهذا ان لبنان هو
البلد الوحيد أو أن الحرية فيه كاملة. لكن الانسان يستطيع
هنا أن يكون، نسبيا ً، ان شرا ً أو خيرا ً، كما يملي عليه
ضميره أو تدفعه اليه نزوته. هنا أعاشر من أشاء، وانشر ما
أشاء، وأخطب ما اشاء. هنا تحترم كل فئة أو طائفة حرية كل
فئة أو طائفة اخرى تمام الاحترام.
الحرية لا تكون في بلد تعددي كلبنان الا بالمبادلة، ولذلك
فالاحترام هنا بين الطوائف أو البيئات أو الاشخاص متبادل.
الحرية لا تبقى الا اذا كانت مسؤولة، ولذلك نعرف تماما ً
في لبنان أن نميز بين الحرية التي تؤول الى القضاء على
الحرية، وبين الحرية التي تطهر الحرية وترفعها وتصونها
وتعمقها، أعني بين الحرية الزائفة المنافقة التي تنقض
نفسها لأنها تجهر بالحرية ولا تؤمن بها، وبين الحرية
الأصيلة المنسجمة مع نفسها. سلوا الآتين الى لبنان من
مختلف البلدان، تسمعوهم يقولون بصوت واحد: في اللحظة التي
تطأ فيها أقدامنا ارض لبنان نشعر بمناخ الحرية، نتنفس
الصعداء، ترفرف اجنحة نفوسنا كأننا في طلاقة الفضاء الرحب،
نصبح بشرا ً أحرارا ً.
الصحافة في لبنان حرة. الاجتماعات حرة. التعبير حر.
الاقتصاد حر. السياسة حرة. الانتخابات حرة.
الحرية تعني احترام الانسان في كرامته الاصيلة التي لا
تنتزع منه، ايا كانت تقلبات الدهر عليه. فوق وقبل كونك يا
أخي أي شيء آخر، فأنت انسان، مثلي تماما ً في انسانيتك،
انسان بعقلك وضميرك وأحاسيسك وآلامك، وقدرك قيم الوجود.
فأن أحترمك بحريتك الكيانية، كانسان، يعني أني أحترم نفسي
أنا. وأن أحتقرك أو أستغلك يعني أني أحتقر نفسي وأستغلها.
بالحرية الانسانية الكيانية الأصيلة النابعة من الاحترام
العميق للعقل والحقيقة يكون لبنان ويبقى.
الصراع الحقيقي اليوم هو بين المؤمنين بالحرية الشخصية
الكيانية المسؤولة الأصلية، وبين الذين يرتعون في ظل هذه
الحرية بقصد "استخدامها" لمآرب اخرى. ولأننا جميعا ً نعرف
أن الأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني سليمة تماما ً في
موقفها من الحرية الحقيقية فأنا لا يخامرني أي شك في أمر
من هو المنتصر في هذا الصراع في النهاية.
يساء الى الحرية بأربع طرق. يساء اليها بالفوضى. وأنا أقر
بأن الفوضى شائعة في التفكير والحياة في لبنان، ولذلك
فالحرية فيه ناقصة.
يساء اليها بالاباحية. وأنا أقر بأن اباحية أخلاقية متفشية
في لبنان، ولذلك فالحرية عندنا ناقصة.
يساء اليها بالاستبداد. وبمقدار ما يوجد أي تعسف أو
استبداد في علائقنا بعضنا مع بعض، دون ان يكون القانون
بالفعل حرزنا الحريز ضد هذا التعسف والاستبداد، فالحرية
هنا مشوهة.
لكن ثمة طريقا ً رابعة للاساءة الى الحرية، أخطر من هذه
جميعا ً، أعني طريق الانحطاط Décadence,
degradation, degeneration فقد تستطيع ان تعالج الفوضى،
وقد تستطيع ان تقوم الاستبداد، اما الانحطاط فلا اعرف له
علاجا ً، سوى وقوف غير المنحطين في وجهه، وهم يؤلفون
الأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني.
الحرية مسؤولة أمام نفسها، وأمام التاريخ، وأمام الله.
الحرية تردع نفسها عن الكذب والتزوير والظلم.
الحرية متبادلة، ولذلك فهي تحترم تماما ً حرية الآخرين.
الحرية تعرف أبسط أصول المعاملة، ولذلك فهي تتصرف وتتكلم
باحترام.
الحرية لا تسف الى مجاري الأقذار.
الحرية تعيش، في كل لحظة، في مخافة حكم التاريخ عليها.
الحرية ترتع في المحبة وتترفع عن كل بغضاء.
من الحرية الحقيقية وحدها يتدفق كل خلق تاريخي باق.
فالحرية الكيانية الشخصية المسؤولة هي التي تطبع لبنان
بطابع مميز، وبدون هذه الحرية لا يوجد لبنان.
يعني لبنان، ثامنا ً، انفتاحا ً سمحا ً على العالم. يتصل
اللبناني بأي ثقافة ويشعر ان شيئا ً منها فيه وان شيئا ً
منه فيها. ينبع هذا الشعور من انسانية لبنان، فكل ثقافة
فيها شيء انساني عميق، ولذا فالانساني في كل ثقافة ليس
بغريب عن لبنان. يقرأ اللبناني اي ادب، ثوريا ً كان أو
محافظا ً، غريبا ً أو شرقيا ً، مؤمنا ً أو ملحدا ً، ولا
يخافه ولا ينجرف أو يضلل به، واذا انجرف أو ضل فالى حين.
ذلك لأن الانساني في هذا الأدب هو في الأصل - في نواته على
الأقل - في التراث اللبناني، هذا التراث الذي عرف الانسان
في مجمل حالاته ودعكه طيلة هذه القرون. من هنا تجد لبنان
موحدا ً نفسه مع الثقافات الأكثر كثافة وعمقا ً انسانيا ً.
حيث يذهب اللبناني - الى أوروبا أو اميركا أو آسيا أو
افريقيا - وهو يذهب الى كل مكان، سائحا ً أو زائرا ً أو
متاجرا ً أو مغتربا ً، لا يشعر أنه غريب تماما ً عن ذاك
المكان واهله. يجد دائما ً فيه شيئا ً انسانيا ً قريبا ً
منه، بالطبع بنسب متفاوتة بين مكان ومكان.
بسبب هذه الانسانية العالمية المنفتحة يجد الغريب انه ليس
بالفعل غريبا ً عن لبنان حين يهبط فيه. يجد في لبنان شيئا
ً حميما ً منه وفيه: ان بعاداته المتمدنة، أو بطقوسه
الدينية، أو باللغات الثلاث المحكية فيه أو باتصالاته
العالمية، أو بجامعاته ومكاتبه، أو بحفلاته ولقاءاته، أو
بمركزية موقعه، أو بسهولة الوصول اليه والخروج منه، أو
بحياته العامة الحرة، فلبنان يمكن الغريب من الشعور بأنه
الى حد بعيد في بيته فيه. ليس صدفة ان بيروت تعتبر اهم
مركز دبلوماسي من حيث رصد نبض الحياة السياسية في الشرق
الأوسط عن كثب.
واذ أقول ان لبنان يتميز بانفتاحه على العالم، لا أقصد
بالعالم مجرد المكان. لا اعني فقط ان لبنان يتفاعل اليوم
سياسيا ً واقتصاديا ً وفكريا ً، مع آسيا وأوروبا وأفريقيا
واميركا بشكل مميز. الانفتاح العالمي يمتد في الزمان كما
يمتد في المكان. المهم أن يكون ماضينا كله منفتحا ً أمامنا
بلا تمييز بين عهد وعهد. المهم ان نتسلم ماضينا ونتحمل
مسؤوليته كله. المهم تواصلية التاريخ وعدم تقطعه. وهذا ما
اعتقد انه الواقع الحقيقي بالنسبة للبنان. فلا أخال عصرا ً
من عصور وجودنا مقفلا ً علينا مبدئيا ً وفي الأساس. ندرس
عصورنا على انها جميعا ً منا، وعلى انها كلها منصبة فينا
ولو بنسب متفاوته. وأنا أزعم أن أي محاولة لفصلنا عن أي
عهد من عهودنا تعني القضاء على لبنان. جمال الوجود
اللبناني ومغزاه وأهميته بحد ذاته وأهميته لغيره، أنه وجود
متواصل مستقر مستمر غير متقطع. ومعركة الحفاظ على هذه
التواصلية المنفتحة، ان في العهود الأخيرة أو في العهود
السالفة، من أخطر المعارك وأدقها وأشدها حسما ً لمصير
لبنان. فأثار نهر الكلب... تدل على تواصلية عيش بقدر ما
تعني تعددية عهود، والتراكم الحضاري الذي نجده في البقعة
الواحدة التي هي بيبلوس، يقابله تراكم غير متقطع في التراث
اللبناني الواحد الحي. ثم ان هذا المعهد ذاته، كما نرى من
برامجه ومنشوراته، يكرس نفسه، باشراف الروح القدس الذي
أطلق اسمه عليه، لتفهم كل نور وحق ووجود، من اي نوع كان،
في تاريخنا المتواصل المتراكم كله. فالماضي كله كتاب مفتوح
لمن يريد ولوجه.
فبانفتاح لبنان الانساني على العالم كله، في بعد الزمان
وبعد المكان، يكون لبنان ويبقى، وبدون هذا الانفتاح ينكمش
لبنان على ذاته ويتقلص.
يعني لبنان، تاسعا ً، اشعاعه الفكري. يسحر بعض الناس من
هذا الاشعاع ويستعملون عبارة "بلد الاشعاع" بتحقير وازدراء.
لكن التمني الافنائي شيء، والحقيقة دائما ً شيء آخر. فمع
اقراري بأن في عبارة "بلد" التي يطلقها بعض "المفشطين" على
لبنان كثيرا ً من المبالغة العاطفية الرخوة الدفاعية، فشيء
من الاشعاع، ضآلته ومحدوديته، وعلى ضرورة تواضعنا التام
بالنسبة اليه، أمر ثابت بالنسبة للبنان.
الألوف من شباب وشابات الشرق الأوسط، ومن خارجه، يؤمون
جامعاتنا ومعاهدنا ومدارسنا كل سنة بقصد الدرس والتحصيل.
لولا بيئة لبنان الاجتماعية والثقافية والروحية، هذه
البيئة السمحة، المنفتحة، الحرة، المقدرة، القابلة للحق
حيث أتى، لما وجدت الجامعة الأميركية، ولما وجدت جامعة
القديس يوسف، ولما وجدت معاهد أخرى لا لبنانية ولا عربية،
ولا ازدهرت هذه المعاهد جميعا ً على أرض لبنان.
صحافتنا تقرأ ليس فقط في العالم العربي بل خارج هذا العالم.
الكتب المطبوعة في بيروت، بالعربية والفرنسية والانكيزية،
منتشرة في العالم كله.
ترجمة الكتاب المقدس الى العربية وضعها لبنانيون، وهكذا
ترجمات هوميروس وسياسة ارسطوطاليس وخلاصة توما الأكويني،
وترجمات اخرى لا حصر لها من اللاتينية واليونانية
والفرنسية والانكليزية والالمانية والروسية. ابحاث اساسية
في التراثين الاسلامي والعربي وضعت في لبنان واعتمدت في
العالم كله. شعرنا من أرفع الشعر العربي، وقد يكون بلغ
مرتبة شعرية عالمية عالية.
المطابع اللبنانية من ارقى مطابع العالم، ان من حيث اتقان
الطباعة وان من حيث جودة البضاعة التي تخرجها. والمكاتب
الضخمة التي اتحفتها هذه المطابع الى العالم طيلة هذه
العقود هي جزء مرموق من دون لبنان العالمي.
اسهام الطاقة اللبنانية في النهضة العربية الحديثة،
الأدبية والفكرية والتعليمية والاعلامية، امر معروف. يتقن
بعض مفكرينا وكتابنا اللغة الفرنسية أو اللغة الانكليزية
كما يتقنها خيرة ابنائها، ويسكبون شعرهم وأدبهم وفكرهم
فيها. بعض علمائنا ومفكرينا لا يقرأون في العالم الغربي
فحسب، بل يعلم البعض منهم في المدارس. كثيرا ً ما يطلب من
المفكر اللبناني أن يحاضر في المحافل والأندية والجامعات
الغربية في غير شؤون العرب والسياسة والاسلام. كثيرا ً ما
يطلب اليه أن يحاضر بشؤون فكرية وروحية عامة مع ان
لبنانيين كثيرين يحاضرون بالطبع، بثقة تامة، بهذه كذلك،
ونحن فخورون بهم.
هذا ما تعنيه عبلرة "لبنان بلد الاشعاع". بالطبع هذا اشعاع
ضيق جدا ً اذا قيس، مثلا ً، بما تعنيه المانيا أو بريطانيا
أو فرنسا أو روسيا أو اميركا، لكنه، على تواضعه وبدائيته،
اشعاع حقيقي. واذا عرفنا، مسلمين ومسيحيين، مصادرنا
الروحية الأصيلة، وكناها بالفعل، أمكننا توسيع هذا الاشعاع
وتعميقه الى اضعاف ما هو عليه الآن.
بالنور والعلم والمعرفة التي تشع من لبنان يكون لبنان
ويبقى.
يعني لبنان، عاشرا ً وأخيرا ً، بعض الوجود في الحقل الدولي.
ولا اخالني كذلك بحاجة الى تعداد اسهام لبنان في الامم
المتحدة منذ تأسيسها، بترؤس خمس من هيئاتها الكبرى، وفي
وضع الاعلان العالمي لحقوق الانسان، وفي محكمة العدل
الدولية وفي المنظمات التقنية المتخصصة، كاليونيسكو ومنظمة
التغذية والزراعة.
في جميع اسهاماته في الامم المتحدة شدد لبنان، أكثر ما شدد،
على الانسان، على الحرية، على الكرامة، على الحق، على
العدالة. وضع هذه القيم فوق أي قيم سياسية، مع احترامه
التام لحقيقة السياسة ومتطلباتها.
وقف لبنان بجانب جميع القضايا العربية، ودافع عنها بحزم،
لا سيما قضية العرب الكبرى فلسطين، رغم محدودية طاقاته.
فلبنان لا يستطيع التنكر للقضية الفلسطينية بأي شكل من
الاشكال. الامر ليس أمرا ً عاطفيا ً وحتى ليس أمرا ً
مصلحيا ً: الأمر أمر انساني وحقوقي.
هذه، اذا ً، هي الاعمدة العشرة التي يتألف مها الكيان
اللبناني وينهض عليها. الجبل، الطبيعة، آثار المدنية
المتواصلة، التجارة، الهجرة ، التواجد المسيحي - الاسلامي،
الحرية، الانفتاح الانساني على العالم، الاشعاع الفكري،
نوع عطاء لبنان في الحقل الدولي.
حديثنا عن كائن موجود بالفعل، قائم في ذاته، معترف به
دوليا ً، اسمه لبنان. هذا الموجود بالفعل، الذي اسمه لبنان،
يتميز تمييزا ً حاسما ً بهذه المقومات العشرة. أما كيفية
تماسك هذه الأعمدة بعضها ببعض، ونوع مرتبيتها بعضها ازاء
بعض، وشكل الوحدة الكيانية التي تنتظم فيها، فكل هذا، على
خطورته، وعلى ضرورة الخوض فيه الى الاعماق، يقع خارج
النطاق الذي رسمته لهذا البحث.
ومهما يكن من امر هذا التماسك وهاتين المرتبية والوحدة،
فالحقيقة العنيدة الباقية هي انه، اذا انتفى أي من هذه
الركائز العشر، انهز لبنان من أساسه، ان لم اقل انتفى وزال
من الوجود.