الآثار القديمة في لبنان- منشورات الجامعة اللبنانية
- (تابع)
6- الآثار اليونانية في لبنان
لما تقلص ظل الدولة الفارسية في الشرق
الادنى تقوى العنصر اليوناني لا سيما بعد فتوحات الاسكندر
ذي القرنين فزحف بجنوده الى سورية واستولى عليها وعلى
لبنان قبل ان يسير الى بابل والاقطار الهندية. ثم قام بعده
على انحاء الشام سلوقوس نيقاطور احد قواده فتملكها واورثها
سلالته من بعده. ومذ ذاك الحين غلب على سورية ولبنان
التمدن اليوناني وتوفرت الآثار اليونانية التي بقي منها
قسم صالح حتى يومنا الى ان قيل في القطر الشامي انه تزيا
بزي اليونانية. غير ان هذه المسحة اليونانية كانت غالبا ً
سطحية ومحصورة في المدن الكبرى لا سيما المدن الساحلية
كانطاكية ودمشق واللاذقية وطرابلس وبيروت وصيداء وكان اكثر
شيوع هذا التمدن الاجنبي بين اماثل القوم والاسر الشريفة
فانهم اهملوا لغتهم الوطنية ليتكلموا بلغة اليونان وسعوا
بتعليمها لاولادهم. فلا عجب اذ ذاك ان تعددت الآثار
اليونانية. ودونك اخصها:
النقود اليونانية - هذه
النقود والمصكوكات كانت من رسوم الدولة مختصة بها او
بالحواضر التي يرخص لها بضربها. وهي عادة يونانية مرسومة
على احد وجهيها صورة الملك الضابط لزمام الامور. وعلى
الآخر صورة بعض الرموز الدينية او المدنية مع تاريخ ضربها
ومكانه. والرموز غالبا ً يونانية او فينيقية بزي يوناني.
ومعظم الكتابات عليها باللغة اليونانية. وقد نشر الدكتور
جول روفيه احد اساتذة مكتب الطب الافرنسي في بيروت سابقا ً
جداول تلك المصكوكات بلدا ًبلدا ً ومدينة مدينة مع صورها
وتفسير كتاباتها في عدة مجلات.
الكتابات اليونانية- هي
كثيرة في لبنان لا يكاد يخلو منها مكان عامر. وهي في المدن
اكثر منها في القرى. وما وجد منها حتى الآن يعد بالمئات
يتراوح تاريخها بين القرن الثالث قبل المسيح والقرن السابع
بعده. على ان هذه الكتابات قصيرة غالبا ً لا تفيد سوى
تعريف بعض اموات كتبت اسماؤهم على قبورهم او بعض المتعبدين
للالهة المتقربين اليهم بالاكرام والتقادم. او تحتوي اعلام
بعض الولاة وعمال الدولة او تدون تاريخ ابنية ومعاهد شتى.
وقد طمس كثير من هذه الكتابات بفعل الزمان كما ترى في
أثرين منها على صخور نهر الكلب لم يمكن بيان معناهما.
والقسم الاخطر من هذه الكتابات قد سطر في عهد الرومان
باليونانية. فترى مثلا ً كتابة في صور لاكرام الوالي مرقس
سكورس سنة 60 ق.م. وكتابة في قلعة فقرا من عهد القيصر
الروماني كلاوديوس. وكتابة في هيكل فتقا من زمن طريانوس
قيصر في السنة الحادية عشرة من ملكه. وكتابة في دوما من
عهد قسطنطين الكبير في وفاة كاهن وثني يدعى كستور. وفي
المدن الساحلية كصور وصيداء وبيروت وجبيل كتابات يونانية
عديدة منها دقيقة ومنها مدنية سعى كبار الاثريين في حل
رموزها نخص منها بالذكر كتابة بالشعر اليوناني في مديح رجل
يدعى ديوتيموس وجدت في حفريات صيداء سنة 1862. والممدوح
كان نال الانتصار في الالعاب العمومية التي اقيمت في صيداء
والكتابة من القرن الثالث قبل المسيح. ومن هذه الكتابات ما
هو احدث عهدا ً فرقم في دولة ملوك الروم المنتصرين ويشير
الى احداث نصرانية كبناء كنائس ومعابد وكفوز الدين
النصراني على الدين الوثني مع رموز نصرانية. اخصها الصلبان.
وللاب لويس جلابرت احد اساتذة الكلية اليسوعية مقالات
ممتعة في هذه الكتابات نشرها في مجموعة المكتب الشرقي وفي
مجلات علمية في باريس.
الاعلام اليونانية لمدن فينيقية -
ومن الآثار اليونانية في لبنان اسماء المدن الفينيقية التي
ابدلها اليونان باسماء يونانية فدعوا صور توروس (Turos)
وصيداء صيدون (Sidon) وبيروت بيروتوس (Berytos) وجبيل
ببلوس (Byblos) والبترون بوتريس (Botrys) ولبنان ليبانس (Libanos)
ونهر الدامور تاميراس (Tamyras) وهلم جرا ً. على ان هذه
الاسماء الاعجمية لم تشع الا بينهم ثم عادت الى اصلها من
بعدهم. وكذا يقال عن اعلام الاشخاص الذين ورد ذكرهم في
الكتابات اليونانية فقد لحظ العلماء ان اغلب هذه الاسماء
ليست يونانية كما يلوح لمعتبريها وانما هي اسماء فينيقية
مخرجة بزي يوناني وان وجد بينها اسماء يونانية فانها
مستعارة وربما وردت الاسماء تلك اليونانية مصحوبة باسم
الشخص الفينيقي فرارا ً من الاشتباه.
الآلهة اليونانيون - لما
تغلب اليونان على سورية ولبنان ورأوا فيهما شيوع ديانة
بعيدة عن ديانتهم اجتهدوا في نشر دينهم وعبادة آلهتهم بين
سكان فينيقية. فالفينيقيون تقربا ً الى الدولة الباسطة
عليهم رواق ملكها ومراعاة لخاطر اصحابها رضوا بان يمزجوا
نوعا بين آلهتهم وآلهة اليونان والرومان واعتبرها جميعهم
كالآلهة عينها لا تختلف جوهرا ً بل عرضا ً. فدعوا البعل
باسم جوبيتر (المشتري) وعشترت باسم قانوس (الزهرة) الى غير
ذلك من الاسماء التي يخالف ظاهرها باطنها. واستمر
الفينيقيون على مألوف عاداتهم الدينية الوطنية لم يغيروا
في مناسكهم شيئا ً من عباداتهم الملية. وعلى هذا المنوال
ترى المعبد الواحد في لبنان مكرما ً من اليونان والرومان
والفينيقيين يزعم كل منهم ان فيه يكرم معبوده الخاص دون ان
يكترث الوطني برأي الاجنبي وكانوا اذا كتبوا على تلك
المعابد او التماثيل كتابة يونانية لا يصرحون باسم الاله
بل يدعونه بالاله العظيم كما ورد في هيكل بلاط فيفهم كل من
العابدين ما يشاء على حسب عنصره الاصلي. وهكذا بقي
الفينيقيون محافظين على هيئة آلهتهم القديمة حريصين على
رسمها وفقا ً لتقاليدهم مع مخالفتها لتقاليد الدولة
المالكة في ازيائها وهيئتها. على ان اليونان المستعمرين في
سورية ولبنان كانوا اذا شيدوا معبدا ً جديدا ً جعلوه
يونانيا ً محضا ً وعبدوا فيه آلهتهم كما شاعت عبادتها في
اوطانهم. تشعر بذلك الآثار التي وجدت في انحاء لبنان لا
سيما مدن سواحل. وقد استخرجوا في حفريات صور وصيداء وجبيل
عدة انصاب وتماثيل ودمى لآلهة اليونان. وكذلك وجدوا في
مدافنهم ونواويسهم اصناما ً ونقوشا ً دينية يونانية محضة
هي اليوم معروضة في متاحف الاستانة العلية وحواضر الفرنج.
وقد وجدت عاديات اخرى يونانية وردت فيها اسماء آلهة
الفينيقيين على اصلها دون تصويرها بزي يوناني. فمن ذلك اثر
اكتشفه الاب هنري الامنس فنشرته مجلة المشرق في سنتها
السادسة (ص 208) وهو عبارة عن حجر يمثل صورة اربعة اشخاص
من آلهة الفينيقيين مع ذكر اسمائهم الفينيقية مرقومة
باليونانية وهم بالوس (Belos) اي بيل او البعل وياريبولس (Jaribolos)
اي يربعل واجليبوس (Aglibolos) اي عجلبعل وسيميا (Semea)
الهة الحكمة كمينرفة عند اليونان.
ومن بقايا الاديان اليونانية في لبنان اعلام لبعض القرى
كطاميش تصحيف ارطاميس (Artemis) وهي الهة الصيد عندهم
يدعوها الرومان ديانا وكان لها في افسس هيكل شهير. وكبلونة
المشتق اسمها من الاله ابولون. وكناوس اسم لثلثة امكنة في
لبنان من اليونانية (Naos) اي المعبد لوجود معابد يونانية
قديمة فيها.
المدافن والنواويس اليونانية - منها كثير في لبنان
وسواحله. وتمتاز المدافن اليونانية بشواعر اصحابها ورموزهم
الدالة على الموت والحداد. من ذلك الانصاب الاسطوانية
الشكل كان اليونان ينصبونها فوق قبورهم عليها غالبا ً
اسماء الموتى وقد وجدوا منها شيئا ً كثيرا ً. وكذلك بعض
الرموز المشيرة الى الموت كمشاعل مقلوبة وزجاجات الدموع.
ومنها صورة النسر المدفني كانهم اشاروا بصورته الى خلود
النفس بعد الموت. وللاب سبستيان رنزفال فصل مطول بين فيه
شيوع صورة النسر في الشام ولبنان مع دلالته على الموت
واصله اليوناني (نشر في مجموعة المكتب الشرقي في القسم
الثاني من الجزء الخامس ص 1-120) ومن هذه الكتابات
المدفنية ما رقم على قبور نصرانية وهي احدث عهدا ً من
سواها. ذكر رينان بعضها في كتاب بعثة فينيقية (ص187). اما
النواويس اليونانية في لبنان وفينيقية فتمتاز ايضا ً عن
النواويس الوطنية فكان اليونان ينحتونها على هيئة معابدهم
المبنية في بلاد اليونان فيصورونها كصورة هياكل صغيرة فترى
الناووس في نقوشه وواجهته واعمدته وافاريزه وغطائه المثلث
الشكل في اعلاه كأنه الهيكل اليوناني في هندسته واقسامه
المختلفة. ومن هذه النواويس عدد وافر ترى منها مثالا ً
حسنا ً في جنينة المرحوم رستم باشا. وعلى جهات هذه
النواويس عادة نقوش رمزية تمثل اطفالا ً او طيورا ً او
اسماكا ً او حيوانات غريبة الشكل تحمل الاكاليل والزهور.
واعجب من هذه الآثار ما وقف عليه 1887 مدير المتحف
السلطاني حمدي بك في مدافن صيداء واستخرجه من حفرياتها الا
وهي اربعة نواويس من الرخام البديع الغالي الثمن اصطنعها
احذق عملة اليونان فبلغوا في نحتها ونقوشها غاية الجمال
بحيث يعد عملهم هذا آية في فن النقش والتصوير وحكم لهم
اصحاب النقد بالسهم الافوز. وهذه النواويس الاربعة قد نقلت
الى الاستانة العلية وهي هناك اجمل زينة المتحف السلطاني
فيتقاطر الى مشاهدتها كل محبي الفنون الجميلة. وانما
يتلهفون على ما تحطم منها باثم اللصوص الذين في الاعصار
السالفة تمكنوا من الدخول الى مستودعها فكسروا بعض اطرافها
ليسلبوا منها جواهرها كما انهم يأسفون على جهلهم لاسماء
صنعة هذه الآثار الجليلة لينظموهم في سلك كبار المصورين
وارباب الفنون الجميلة.
واقدم هذه النواويس هو المعروف بناووس المرزبان لان صوره
المنقوشة على جوانبه تمثل مرزبانا ً يظن ان ملوك الفرس
اقاموه واليا ً على انحاء الشام. والمرزبان المذكور ترى
صورته على ثلثة وجوه النواويس في هيئة الحاكم وهو جالس على
عرش على رأسه التاج وفي يده الصولجان. وفي هيئة القائد
المحارب اذ هو ممتط جوادا ً ويقاتل الاعداء. وفي هيئة
الميت على فراش المنون. وحوله في هذه الصور خدم واماء
وفرسان وعجلات في هيئات وحركات شتى فهذا يحارب عدوا ً
فصرعه وكاد يقتله وذاك يصطاد فهدا ً. هنا رجال يهتمون
بالخدمة وهناك نساء يقدمن سكيبا ً للالهة. وكل هذه الصور
غاية في الدقة تكاد تظن انها حية. والناووس كان مصبوغا ً
بالوان زاهية ذهب بمعظمها الزمان. وشكله من اشكال النواويس
اليونانية الممثلة لهيكل. الا ان باطنه على هيئة النواويس
الفينيقية وفي ذلك دليل على انه كان وسطا ً بين الزي
الفينيقي والزي اليوناني. اما تاريخه فيرقى الى القرن
الرابع قبل المسيح او اوائل الخامس.
والناووس الثاني هو الناووس الليقي نسبة الى هندسة اهل
ليقية التي تقلدها صانع هذا الاثر البديع. غير ان نقوشه
وتصاويره تفوق على كل النواويس الليقية المعروفة سابقا ً
من حيث دقتها ونهاية جمالها وحسن تركيبها. وقد سعى صانعه
المجهول برسم هيكل مينرفة الشهير في اثينة وتقليد محاسنة
الهندسية. وتاريخه من القرن الرابع قبل المسيح.
والناووس الثالث يعرف بناووس الباكيات دعي به لما نقش على
جوانبه من النساء النائحات وعددهن ثماني عشرة يمثلن شواعر
الحزن في كل هيئاته المختلفة فترى كل امرأة بارزة في حالة
من الكآبة اشد من الاخرى مع تفننهن في الحركات والجلسات
والازياء. وعلى جوانب الناووس غير ذلك من التصاوير كمناظر
طبيعية واعمال فروسية يشار بها الى شهامة الدفين. وقد
اخذوا على صانع هذا الناووس مجاوزته حدود الذوق في تراكم
الاشخاص لكن ارباب النقد صوت واحد في حكمهم على مقدرته
العجيبة وبراعته في التصوير.
اما الناووس الرابع فهو ابهى واجمل سائر النواويس
اليونانية المعروفة الى يومنا وقد دعوه بناووس الاسكندر
الكبير لا لان الاسكندر ذا القرنين قبر فيه والتاريخ يصرح
بان جثته بعد موته حنطت ونقلت من بابل الى الاسكندرية
فاودعت فيها اللحد. وانما نسبوا هذا الناووس الى الاسكندر
لان مكتشفيه وجدوا على جوانبه منقوشة مآثر الاسكندر وحروبه
مع الفرس وانتصاره على دارا في اربيل. ويرى هناك ذاك
العاهل في ثلث هيئات مختلفة يمتاز فيها بين قواده بتاجه
الملكي ووقفته كبطل مغوار. وهو في الواحدة من هذه التصاوير
ممتط جوادا ً مطهما ً وفي يده رمحه يبارز به احد اعدائه
الفرس. ويرى في صورة اخرى ينقذ بعض المصارعين من مخاليب
اسد رئبال. والناووس على صورة هيكل يوناني صغير جمع فيه
صاحبه كل محاسن النقش والنحت والتصوير وهو حقيقة اهل
بالاسكندر لولا ان الدهر قضى بخلاف ذلك فصار الناووس نصيب
احد ملوك صيداء بعد ان ابتاعه الفينيقيون بمالهم فخصوه
باحد ملوكهم.
هذه بعض الآثار اليونانية التي بقيت في لبنان وما هي سوى
برض من عد اثبتناه هنا. ان فينيقية اكتسبت قسما ً كبيرا ً
من مآثرها من اليونان الا ان العدل يضطرنا الى القول بان
اليونان مديونون ايضا ً للفينيقيين باشياء كثيرة اخذوها
عنهم. حسبك ما استفادوا من الفينيقيين من علم الكتابة.
فانه سواء قيل ان الفينيقيين ابتكروا حروف الهجاء او انهم
اشاعوها فقط في المعمور ولا سيما بين اليونان فلا بد من
الاقرار بفضلهم في ذلك.
وهنا لابأس من ان نلمع الى كتاب خطير وضعه العلامة
الفرنسوي فكتور بيرار فطبعه في باريس سنة 1902 في مجلدين
ضخمين دعاه "الفينيقيون واوديساة هوميرس" بين فيه ان
هوميروس الشاعر اليوناني الشهير في القرن العاشر قبل
المسيح في كتابه منظومة اسفار عوليس الملك الى البلاد
القاصية قد احسن وصف الاقطار التي مر بها واتقن تعريف
خواصها وعادات اهلها والسبب انه بنى كل اوصافه على ما سمعه
من الفينيقيين من اخبار رحلهم ومتاجراتهم ومستعمراتهم
وفنونهم. واثبت المؤلف قوله برسوم وتصاوير شتى من آثار
الفينيقيين واضاف اليه ادلة واضحة تنفي كل شك في حقيقة
رأيه. وكفى برهانا ً على ذلك كلام اسطرابون الجغرافي
اليوناني حيث يقول: "اذا وجد هوميروس محكما ً لوصف البحرين
الخارجي والداخلي فذلك لانه نقل معلوماته عن الفينيقيين".
7- الآثار الرومانية في لبنان
فتح بمبيوس القائد سورية سنة 64 ق. م. وجعلها اقليما ً
رومانيا ً. فبسطت رومية سيطرتها على لبنان وافاضت عليه
نعمها السابغة كمألوف عادتها مع الاقطار الخاضعة لدولتها.
ومآثر الرومان في انحاء لبنان متعددة كسبوا بها شكر
اللبنانيين وخلدوا لهم بينهم ذكرا ً طيبا ً.
المشروعات العمومية - قد اشتهر الرومان حيثما حلوا
بالمشروعات النافعة لعموم رعاياهم. فكانوا اذا استولوا على
قطر يسرعون الى فتح السكك فيه يخططها المهندسون ويقوم
بنهجها فرق من الجند تحت نظارتهم فيمهدونها ويرصونها
بالحجارة ويوثرونها توثيرا ً حسنا ً لتصبر زمنا ً طويلا ً
على طوارىء الجو وضغط العجلات وكانت غايتهم من فتح تلك
السكك ان يمهدوا الطرق لجيوشهم ثم يسهلوا المواصلات بين
انحاء البلاد تنشيطا ً للتجارة والمعاملات. ولم يثن عزمهم
ما لقوه في لبنان من المسالك الوعرة والصخور الشماء بل
باشروا بالعمل بهمة لم تعرف الكلل. ففتحوا في الجبل عدة
سكك لم تقو عليها عوامل الخراب الا بعد ممر الدهور فمنها
ما ترى آثار في السواحل على مسير شاطىء البحر. ومنها ما
يتوسط لبنان كالطريق المنشأة من جبيل الى بعلبك فتجتاز في
اعالي لبنان وتقطع صخوره الصماء. مع سكك اخرى كثيرة تجد
بقاياها في نواحي الجبل شمالا ً وجنوبا ً شرقا ً وغربا ً
ربما دلت عليها انصاب اقاموها على اطرافها من ميل الى آخر
لتدوين المسافات بين بلد وبلد مع ذكر اسم القيصر الذي امر
بانشاء الطريق.
ومن اعمال الرومان المشكورة الجسور التي بنوها فوق الانهار
او عنوا باصلاحها بعد خرابها. وما بقي منها الى يومنا يدل
على حسن هندستها وصلابتها العجيبة. لك في ذلك مثال عياني
في جسر المعاملتين شمالي جونية فانه من الاعمال العادية
الناطقة بفضل مباشريها. وفي جسر جبيل بين البلدة ومدافنها
القديمة.
ومن اعمالهم القني لجمع المياه ونقلها من ينابيعها الى
المدن الساحلية ومزارع السهول نجد منها قناتين قريبا ً من
بيروت الاولى القناة الممتدة من نهر الكلب وجونية حيث جهز
الرومان قناة محكمة الصنع جروا فيها مياه النهر الى السهول
والمزروعات الواقعة بينه وبين تلك البلدة. والثانية هي
القناة الكبيرة التي كانت تنقل مياه الجبل الى بيروت وهي
من عجائب الآثار القديمة كانت تجري فيها المياه من نبع
العرعار بين قريتي برمانا وبيت مري فتمر فوق وادي نهر
بيروت على قناطر ذات ثلاثة صفوف يركب بعضها البعض يبلغ
علوها 50 مترا ً وطولها 240 مترا ً. والعامة تنسب هذه
القناطر اما لزينب ملكة تدمر واما لزبيدة قرينة هارون
الرشيد. والصواب انها اقدم منهما عهدا ً وان الرومان هم
الذين شيدوها وبنوها بنحيت الحجارة الكبيرة ولحموا بينها
بالملاط الروماني المتين. وكانت المياه الجارية فوقها تنفذ
في سرب منقور في الجبل على مسافة طويلة. ثم تبلغ الى ضواحي
المدينة فتمر في منعطف تل الاشرفية فوق السكة الحديدية
الحالية الى ان تبلغ البلد تحت مدرسة الحكمة. وقد بقي منها
بقايا ضخمة الى يومنا هذا. وللاب جوليان اليسوعي والرياضي
الشهير مقالة خاصة في وصفها. ويؤخذ من اقيسته ان هذه
القناة كانت تغني بيروت بمواردها. وكان مقدار الماء الجاري
فيها يبلغ في كل ثانية مترا ً مكعبا ً اعني 15 مرة ازيد
مما تأتينا به ادوات شركة نهر الكلب الحالية. وقد ادت هذه
القناة لبيروت خدما ً عظيمة مدة قرون طويلة كما تشهد عليه
الرواسب الكلسية الملتصقة بحجارتها من باطنها. ولعلها خربت
في الزلزلة التي دهمت بيروت في عهد يستنيان فجعلتها ردما ً
تنعق عليها الغربان.
ومن هذه القني الرومانية قناة اخرى كانت تنقل مياه نهر
ابراهيم الى جبيل ومنها آثار لم تطمس الى الآن.
وكانت كل هذه القني تمتد غالبا ً في وسط الصخور المنقورة
وكانوا يفرشون فوقها الصفائح صونا ً لها من الاقذار
ولاسيما من جرف المياه المطرية في فصل الشتاء فتنتهي الى
بيروت خالصة صافية زلالا ً.
ومما يذكر من فضل الرومان نحو لبنان فيحق لهم عنه الشكر
انهم لما دخلوا بلاد الشام عرفوا ان غنى لبنان يقوم
بغاباته وضروب اشجاره التي تجمل مشارفه ولعلهم رأوا بعض
الاهلين يحملهم طمعهم بالربح بل قام جهلهم بخيرهم الصحيح
على ان يقطعوا تلك الاشجار دون نظام وحكمة. فاسرعت الحكومة
الرومانية واحتكرت اربعة اصناف من اشجار لبنان وهي العرعر
والسرو والصنوبر والارز وكلها من الاشجار الجبلية الصلبة
الخشب الوارفة الظل فلم تسمح للاهلين بقطعها وقد كانت عينت
لذلك مهندسين من ارباب المزدرعين لا يقطعون شجرة الا غرسوا
غيرها. ومن خشب هذه الغابات كان الرومان يجهزون سفنهم
ويخبر التاريخ عن بمبيوس فاتح بلاد الشام انه اصطنع له
اسطولا ً من الخشب اللبناني تمكن به من قطع دابر القرصان
الذين كانوا يعيثون ويفسدون في تلك النواحي. وفي الكتابات
المكتشفة في لبنان كتابة تكرر رقمها في جهاته يستفاد منه
ان اهل لبنان مخيرون بقطع بعض الاشجار دون غيرها اي
الاصناف المذكورة آنفا ً.
الهياكل الرومانية في لبنان -
علم الرومان ان الفينيقيين حريصون على حفظ دينهم فاحبوا ان
يستعطفوهم بمساعدتهم على بناء الهياكل الفخيمة وتوفير
مشاعرهم الدينية وقد سبق ان اليونان يوم تملكهم على
فينيقية تساهلوا مع اهلها في امر معبوداتهم فتركوا لهم
جوهر دينهم واكتفوا بان كسوها بمسحة يونانية في الظاهر.
وكذلك فعل الرومان فانهم اعتبروا الدين الفينيقي كنفس
دينهم الروماني لا يخالفه الا بالعرض فاكتفوا بان يسموا
آلهة الفينيقيين باسماء آلهة رومانية. ومن ثم صرفوا
القناطير المقنطرة على الهياكل التي شيدوها او رمموها بعد
خرابها في انحاء لبنان فضلا ً عما تكلفوه في سائر بلاد
الشام كحمص وحلب وحماة وبعلبك وجهات بقاع العزيز.
ومن هذه المباني الدينية التي اهتموا بتشييدها هيكل دير
القلعة وكان الفينيقيون قبل فتح الرومان لبلادهم يعبدون
هناك البعل المدعو بعل مرقد اي بعل الرقص والقصف كانوا
يجتمعون عنده في بعض مواسمهم ليكرموه بالرقص واسباب
الملاهي والمآدب. فلما جاء الرومان ادرجوا هذا الاله
الفينيقي في مصف آلهتهم واعتبروه كعظيم آلهتهم جوبيتير اي
المشتري وجمعوا بين الاسمين فقالوا جويتير البعلمرقدي (J.
Baalmarcodi) كما ورد في عدة كتابات ثم اقاموا له ذلك
البناء المهيب الذي ترى قريبا ً من بيت مري بقاياه العجيبة.
وكانت تكرم هناك عشترت الالهة الفينيقية زوجة البعل في
هيكل خاص فجعلها الرومان بمنزلة يونون زوجة جويتير.
وقد ورد اسمها في كتابات نشرها الاثريون. وللأب سبستيان
رنزقال مقالات واسعة في هيكل دير القلعة ووصف آثاره التي
اكتشف قسما ً كبيرا ً منها. وقد قدر بعد درس تلك المآثر ان
الهيكل كان يبلغ 25 مترا ً في العلو. وهذا لعمري احسن دليل
على عظم ذلك البناء وجليل قدره.
وكان الهيكلان اي هيكل جوبتير بعل مرقد وهيكل عشترت او
يونون في وسط بقعة تفتن الابصار. وكان لهيكل البعل رواق
رحب الفناء تسنده ثمانية اعمدة ضخمة من الرخام البلدي يصعد
اليه بدرج يوازيه حسنا ً وسعة. وكان في داخله مزينا ً
بتمثال الاله المنصوب في كوة على شبه مظلة فاخرة.
ويشبهه هيكل آخر في عظمه وهندسته الرومانية نريد به هيكل
افقا الواقع عند منبع نهر ابراهيم والمغاور التي تخرج منها
مياهه الزاخرة. فهناك اساس هيكل قديم عبد فيه الفينيقيون
عشترت ثم لحق به الخراب بعد مدة فعاد الرومان وجددوه وخصوه
باكرام الزهرة الى ايام قسطنطين الملك فامر بهدمه اذ بلغه
ما يجري في ذلك المعبد من الآثام الفظيعة والارجاس القبيحة
وذلك سنة 325 الا ان القيصر يليان الجاحد تقدم بترميمه
وتكرار مواسمه الشنيعة فقام بعده بزمن ثاودوسيوس الكبير
واخربه ثانية ثم جاءت الزلازل وبالغت في تدميره بحيث لا
ترى منه اليوم سوى اركانه الضخمة.
ومن الهياكل الرومانية في لبنان هيكل فقرا المبني فوق
مزرعة كفردبيان في لحف جبل صنين على علو 1600 متر من سطح
البحر وقد بقي منه بقايا ذات شأن كافية لتعريف هندسته
واقسامه. وقد وصفه رينان في كتاب بعثة فينيقية وقابل بينه
وبين هياكل اخرى بناها الرومان فاستدل من طريقة بنائه
وحجارته الضخمة انه للرومان. وأيد قوله بكتابات على بنايات
اخرى قريبة منه اخصها برج عظيم مربع حيث وجدت كتابتان تذكر
الواحدة القيصر الروماني كلاوديوس والثانية اسم باني البرج
وهو احد سدنة الهيكل ابتناه على نفقة خزانة الاله العظيم
والمقصود به البعل او المشتري ولا يبعد ان بناء الرومان
سبقه بناء فينيقي اقدم منه.
وفي لبنان آثار اخرى من هياكل رومانية كهيكل بزيزا وهيكل
ناوس في جهات طرابلس ليس بعيدا ً من اميون. وهي آثار جليلة
تدل على همة الرومان في تشييد الهياكل الفخيمة بالحجارة
الضخمة والهندسة الجميلة. وكانت هياكلهم في المدن ابهى
واجمل كما يفيدنا التاريخ الا ان آثارها قد فقدت باذى
الزمان.
التماثيل الرومانية -
هذه التماثيل منها دينية ومنها مدنية والاولى اكثر عدا ً
نخص منها بالذكر تمثالا ً عظيما ً للاله نبتون اله البحر
عند الرومان وجد في جبيل سنة 1903 في ارض من املاك الرهبان
البلديين فوصفه الاب سبستيان رنزفال في مجلة المشرق ورسم
شلوه فيها. وهو تمثال متقن النحت تدل صناعته على حذاقة
ناحته الروماني. ولا سيما رأس الاله فانه غاية في الاتقان
يشبه في بهائه وعزته الصورة التي خص بها الاقدمون المشتري
ابا الآلهة. والمظنون ان هذا التمثال كان يزين احد الهياكل
التي اقامها الرومان في جبيل. وقد نقل التمثال الى متحف
الاستانة.
ومما اكتشف حديثا ً في كفر جزين قريبا ً من برجا تمثال
جويتير البعلبكي على صورة رجل منتصب طويل الشعر ذي لحية
خفيفة وفي هيئة تخنث وهو رافع يده اليمنى اما يسراه
فمنحنية على صدره وعليه رداء طويل فوقه صدره مشبكة الخطوط
ومن ورائه النسر المرموز به عن المشتري.
وكان رينان وجد سابقا ً تمثالا ً آخر لجوبتير البعلبكي في
صربا يحفظ اليوم في متحف باريس. وقد وصف الاب رنزفال اثرا
ً ثالثا ً اكتشفه سنة 1908 في جبيل يمثل "جويتير الاعظم"
كما ورد في كتابة يونانية تحته. والاله مصور الى وسطه وهو
ملتح كث الشعر على رأسه عصابة وشعره ينحدر اطباقا ً الى
اذنيه فيواريها وملبوسه رداء باردان فوقه شملة يعطفها فوق
كتفه الشمال وعلى يساره صولجان وعن يمينه صورة الصاعقة
فعلى هذه الهيئة كان الجبيليون يعبدون جويتير وهم يعتبرونه
بمثابة الههم "ملوخ" الا انهم اخرجوه في زي يوناني روماني
وللتمثال قاعدة رقمت عليها كتابة تعرف شخصه.
وقد وجد الاب المذكور اثرا ً آخر في نيحا يمثل ثلثة آلهة
ذكر فانثى منتصبين امام مذبح ثم معبودا ً ثالثا ً صغير
القد مجنحا ً راكبا ً على ثور. والمعبود المذكور الاله
الروماني هرقل تدل عليه هراوته في يده الشمال لكنه بزي
وطني كما يلوح من ثوبه الشرقي السابغ وقبعته المخروطة.
وفي متاحف الاستانة وباريس تماثيل اخرى وجدت في لبنان او
في سواحله بينها تماثيل لمينرفة الهة الحكمة وللزهرة ولاله
الطب اسكولاب. اما التماثيل المدنية فمعظمها وجد محطما ً
فيصعب بيان الممثل بها الا التماثيل الحيوانية كالاسود
والثيران وغير ذلك مما تحقق اصله الروماني.
المباني الرومانية - لم يخلف لنا الرومان في لبنان
هياكل ومعابد فقط بل شيدوا ايضا ً ابنية اخرى كالحصون
والقصور والمسارح والمعاهد العمومية التي اكتسبوا بها شكر
رعاياهم وان كان الدهر طحن بكلكله اكثرها. ففي البترون
شيدوا لهم حصنا ً منيعا ً وجدت بعض انقاضه القديمة. وفي
المكان المسمى مراح الشيخ بجوار البلدة ملعب قديم بناه
الرومان تظهر الى اليوم مقاعده على شكل درج مستدير منحوتة
في الصخر.
ومما لا يجوز الاضراب عنه المباني التي شيدها الرومان في
بيروت او بنيت باغرائهم. وكان اوغسطوس قيصر محبا ً لبيروت
واهلها فخصهم بالطاف لم يمنحها غيرهم ثم ولى عليها صهره
القائد مرقس سبسيانوس اغريبا بعد اقترانه بابنته جوليا
التي باسمها دعيت بيروت "مستعمرة جوليا اوغسطا السعيدة
بيروت" وضرب نقودا ً على هذا الاسم. اما زوجها فلم يذخر
وسعا ً في ان يجعل بيروت من المدن الاولية وحواضر الشام
فبنى فيها الابنية الفخيمة واستدعى اليها فرقتين من الجنود
الرومانية اي الفرقة المقدونية والفرقة المنسوبة الى
اوغسطوس قيصر فامتازت بذلك على بقية المدن الساحلية ثم
منحها اوغسطوس الانعامات المختصة بالمستعمرات الرومانية
وخول اهلها حقوق المدنية الرومانية وذلك في السنة 15 قبل
المسيح.
وقد روى المؤرخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس ان هيرودس الكبير
لما رأى محبة اوغسطوس قيصرلبيروت عزم على مجاملته فشيد
فيها النوادي الواسعة والاروقة الرحبة والهياكل العظيمة
والاسواق الفاخرة والحمامات والمخازن التجارية فتقاطر الى
بيروت كثير من الرومان والاجانب فاستوطنوها وزادت بهم حسنا
ً وعمرانا.
وورث هيرودس اغريبا الاول حفيد هيرودس الكبير حب جده
لبيروت فزانها بابنية جديدة منها مرسح شهير كان يفوق على
مراسح كثير من الحواضر الرومانية. وكذلك بنى ملعبا ً
وميدانا ً فخيما ً لمصارعة الحيوانات الضارية ومعاهد اخرى
انفق في هندستها قسما ً من ثروته الواسعة واقام في تدشينها
مواسم واعيادا ً لم يعهدها الناس من قبله.
فمثلوا في المرسح المشاهد المبهجة وتوفرت فيه الملاهي
وعزفت ضروب المعازف المطربة. وتفكيها ً للحضور حكم على
1400 من اصحاب الجنايات بان ينقسموا قسمين ليقاتل بعضهم
بعضا ً ففعلوا حتى قتلوا كلهم عن بكرة ابيهم في ذلك
الميدان الذي اعده لتلك المبارزات الوحشية. وعلى رأي بعض
الاثريين ان الميدان المذكور كان على شاطىء البحر قريبا ً
من ميناء الحصن المعروف بخان الصاغة حيث يرى شيء من آثاره.
وفي هذا الميدان نفسه نادى الجيش الروماني بقائدهم وسبسيان
امبراطورا ً بعد وفاة نيرون فبايعه امراء الجيش والولاة
فسار من ثم الى رومية ليضبط زمام الملك. وفيه ايضا ً احتفل
ابنه طيطس بعيد مولد ابيه بعد فتحه اورشليم بما لا مزيد
عليه من الابهة والمجد وامر بقتل جم غفير من اسرى اليهود
ليمتع الشعوب بقتلهم.
وقد جرى هيرودس اغريبا الثاني مجرى اغريبا الاول ابيه في
تزيين مدينة بيروت بالآثار الجميلة مع كونه ملكا ً على
البقاع وبيروت غير داخلة في تخوم مملكته. فنصب فيها
التماثيل ونقل اليها صور مشاهير القدماء من انحاء المملكة
وشيد فيها 64 ناديا ً جديدا ً من جملتها بناية المجلس
البلدي التي يستدل على شيء من آثارها عند باب الدركة بقرب
رجال الاربعين واقام في مرسحها المشاهد السنوية فصارت
الملاعب والاعياد تحاكي في بيروت مواسم رومية ذاتها. ومن
مآثره انه كان يوزع على اهل بيروت بسخاء القمح والزيت حتى
نسب الى الاسراف ولامه اهل دولته على تبذيره خزائن المملكة
في سبيل مدينة خارجة عن حكمه.
ومما كانت بيروت مزدانة به في عهد الرومان اروقة على سوار
ضخمة كانت تمتد على طول المدينة فيتجول الناس في ظلها صيفا
ً وشتاء. وفي الحفريات غير المنظمة التي جرت في هذه السنين
الاخيرة لبعض اعمال النافعة ظهر قسم من هذه الآثار القديمة.
ولا شك ان منها قسما ً اوفر يمكن استخراجه بحفريات قانونية.
وقد شيد الرومان لجبيل اروقة كأروقة بيروت.