Dr. Fayez Sayegh

الدكتور فايز صايغ الدبلوماسي المميز في الزمن الصعب 1922- 1980

كثيرون من بني البشر يعبرون الممر الضيق للحياة الانسانية في وقت ضيق من عمر التاريخ، دون أن يكون لهم حضور يستحق الذكر في سجل هذا الممر، أو على صفحة جداره القاسي. بينما يرفض القليلون من الناس المميزين أن يكون حضورهم في هذا الممر الحياتي حضورا ً عاديا ً أو عابرا ً، لذلك يعمدون بكل الطرق والوسائل الى تجسيد تميزهم وتكريسه عمليا ً عبر ايمانهم بهذا التميز أولا ً، ومن خلال ارادتهم ثانيا ً، وصولا ً الى الموقف ثالثا ً، وبشكل تعجز عن طمسه أو محوه كل قوى الأعداء مجتمعة؛ اذ أن عملية تسجيله لا يمكن أن تكون من عمل "هواة" بل من "محترفين" في عملية "حفر المواقف التاريخية في صخور الزمن". تماما ً كما تحفر الأزاميل في الصخور.

وطبيعي أن يكون الدكتور فايز عبد الله صايغ من هؤلاء المحترفين في حفر المواقف التاريخية في صخور هذا الزمن، وفي صخور كل زمن آت. كيف لا، وهو صاحب أهم قرار تاريخي صدر عن هيئة الأمم المتحدة منذ تأسيسها، من خلال جمعيتها العامة، بتاريخ 10 تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1975، باعتبار"الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"!

الدكتور فايز صايغ مناضل من خيرة مناضلي أمتنا العربية، ومفكر من نخبة النخبة من مفكرينا الوطنيين والقوميين، وانسان تعتز الانسانية به تماما ً كاعتزازه بالانتساب الى رسالتها السامية.

ولد سنة 1922 في قرية "خربا" في محافظة السويداء في سورية، من أسرة عربية، أعطت القضايا القومية الكثير من عملها وخبرتها ووطنيتها، كما أعطت الأجيال العربية الحاضرة والمستقبلية مثالا ً ونموذجا ً صادقا ً في الانتماء للقضية والأمة؛ ولم يكن فايز صايغ الا واحدا ً من باقة جمعت: توفيق الشاعر المجدد، وأنيس المفكر والأكاديمي والممناضل (الذي تعرض لمحاولات اغتيال عديدة من قبل جهاز المخابرات الاسرائيلية "الموساد" وكان من بينها طرد ملغوم انفجر في وجهه ويديه يوم كان مسؤولا ً عن مركز الأبحاث في بيروت)، ويوسف المفكر الاقتصادي الشهير...

انتقل فايز صايغ مع أسرته طفلا ً الى فلسطين حيث عين والده قسا ً في مدينة طبرية ووالدته معلمة. تلقى تعليمه في الكلية الاسكتلندية في صفد، وفي الجامعة الأميركية في بيروت، وحاز شهادة الباكالوريوس سنة 1941، وشهادة الماجستير سنة 1945. وعين أستاذا ً للفلسفة في الجامعة الأميركية (1945-1947). ثم التحق بجامعة جورج تاون في الولايات المتحدة الأميركية، ونال منها شهادة" الدكتوراه" سنة 1949.

وانطلاقا ً من تربيته الوطنية وطبيعته القومية، كان من الطبيعي أن يتأثر، خصوصا ً في الجامعة الأميركية، بالأفكار التحررية والقومية التي عرفتها الجامعة آنذاك، ومن ضمنها العقيدة السورية القومية الاجتماعية من خلال مؤسسها الزعيم أنطون سعادة. هذا، ولم يكتف فايز صايغ بالتأثر نظريا ً بهذه العقيدة، بل عمد الى ميدان العمل الفعلي، محولا ً الفكر الى ممارسة، وانخرط في صفوف الحزب السوري القومي الاجتماعي حتى غدا أحد أبرز دعاته ومفكريه، في وقت عرف فيه هذا الحزب عصره الذهبي.

تبلورت شخصية فايز صايغ في هذا الجو، الى جانب تكوينه العلمي والمعرفي. وبين عامي 1950-1952، عين فايز في مكتب الأنباء العامة؛ ثم في مكتب الشؤون الاجتماعية بين عامي 1954-1955، التابعين لهيئة الأمم المتحدة، ثم اختير مستشارا ً لبعثة اليمن في الأمم المتحدة (1955-1959). وفي سنة 1959 ترأس المجلس العربي الفلسطيني في بيروت.

لم يقطع فايز صايغ الصلة بالعمل الأكاديمي، حيث شغل منصب أستاذ زائر في جامعتي ستانفورد ويال في الولايات المتحدة (1960-1962)، وفي جامعة أوكسفورد في المملكة المتحدة (بريطانيا) (1962-1964)، ثم في الجامعة الأميركية في بيروت (1964-1967).

اختير فايز صايغ عضوا ً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وحين تقرر تأسيس مركز الأبحاث التابع للمنظمة في بيروت، أسندت اليه رئاسته ومهمة تأسيسه، فأشرف على اقامته والعمل فيه، ولم يتركه الا بعد أن أصبح مؤسسة متكاملة عاملة تماما ً وفعالة.

وفي عام 1971 أصبح د. فايز صايغ عضوا ً في المجلس الوطني الفلسطيني واستمر فيه حتى وفاته سنة 1980.

والى جانب ذلك عمل مراقبا ً دائما ً لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة ثم مستشارا ً لبعثة الكويت في هذه الهيئة منذ سنة 1972 حتى وفاته في نيويورك بالسكتة القلبية سنة 1980.

نعته منظمة التحرير الفلسطينية، والمجموعة العربية في الأمم المتحدة. ونقل جثمانه الى بيروت، ودفن فيها مأتم وطني وشعبي كبير. وكانت خسارته بالفعل خسارة فادحة لفلسطين وللثورة الفلسطينية وللأمة العربية جمعاء، باعتباره رمزا ً مناضلا ً من رموز الأمة الأوفياء والمخلصين لتراثها وحضارتها وتاريخها وحاضرها ومستقبلها. فقد قضى عمره مدافعا ً عن قضاياها دفاع المستميت في سبيل حقه المغتصب من قبل الاحتلال الصهيوني لفلسطين الأرض والشعب والتراث...

شارك فايز صايغ في مئات الندوات، وألقى مئات المحاضرات أيضا ً، وكتب مجموعة كبيرة من الدراسات والمقالات باللغتين العربية والانكليزية عن القضية العربية عامة والقضية الفلسطينية خاصة. عمل في مطلع الستينات في حقل الاعلام العربي للقضية الفلسطينية، ولا سيما في الولايات المتحدة، وكان له نشاط واسع في هذا الحقل، ونجح في تعريف الكثيرين من الأميركيين بعدالة القضية الفلسطينية، كما نجح في ادخال هذه القضية الى بيوت الأميركيين كافة. واشتهرت مناظراته التلفزيونية والاعلامية والجامعية مع الصهيونيين ومؤيديهم. وقد اعتمد في مجابهتهم والتغلب عليهم على الهدوء والرزانة في النقاش، وعلى دعم الحجة بالاثباتات العلمية، وعلى سرعة الخاطر وقوة الذاكرة. ولأنه كذلك، فقد كان وراء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379 في دورتها الثلاثين الذي يدين الصهيونية على أنها شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري. وكان ذلك في 10 تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1975... وقد أفقد هذا القرار الصهاينة صوابهم، فأخذوا يهاجمون الأمم المتحدة معتبرينها أداة بين أيدي الدول العربية ومجرد هيئة شكلية يتحكم بها "أعداء الصهيونية". وهو الذي صاغ القرار ووضع كلماته.

ترك الدكتور فايز صايغ عددا ً كبيرا ً من المؤلفات باللغتين العربية والانكليزية (ترجم بعضها الى لغات أوروبية متعددة) منها: البعث القومي (1942)، نداء الأعماق (1947)، سجل اسرائيل في الأمم المتحدة (1957)، الوحدة العربية (1958)، النزاع العربي - الاسرائيلي (1964)، مشروع همرشولد وقضية اللاجئين (1959)، الاستيطان الصهيوني في فلسطين (1965) والدبلوماسية الصهيونية (1967).

هذا، وفي كتابه "الاستيطان الصهيوني في فلسطين" يحدد الدكتور فايز صايغ طبيعة دولة المستوطنين الصهيونيين (بعد أن يضع الاستعمار الصهيوني في اطاره التاريخي وتحالف الامبريالية البريطانية مع هذا الاستعمار)، عبر صفات وخصائص رئيسية ثلاث:

1- التكوين العنصري والسياسة العنصرية.
2- الادمان على العنف والارهاب.
3- النزعة التوسعية.

ويخلص بعد ذلك الى نتيجة هامة مفادها أن "الاستعمار كان عند الصهيونية لبناء الدولة القومية وليس وليدا ً لقومية قد سلف تحقيقها" مثلما كان حال الدول الاستعمارية الغربية.

أما في كتابه "الدبلوماسية الصهيونية" فانه يشير الى أن دراسته للنهج الدبلوماسي الصهيوني تناولت بعض وجوه النهج السياسي التي يصعب فصلها عن الممارسةالدبلوماسية البحت... أما بشأن طريقة التعرف الى النهج الدبلوماسي الصهيوني، فاننا نستخدم طريقة الاستقراء التاريخي، لا طريقة الاستعراض التاريخي... وذلك من خلال استقاء المعلومات الأولية مما كتبه أثمة الحركة الصهيونية أنفسهم في مذكراتهم ومفكراتهم، وفي مراسلاتهم وخطبهم ومؤلفاتهم...

وأخيرا ً، يبقى الدكتور فايز صايغ قيمة فكرية ونضالية رغم غيابه المبكر، في زمن كانت القضية والثورة بحاجة اليه، كما كانت محاولات الصهيونيين في أوجها للتخلص من رموز هذه الثورة والقضية، مما يدفعنا للشك بوفاة د. فايز صايغ في الولايات المتحدة بالسكتة القلبية. ورغم سكوت قلبه، فان صدى فكره ونضاله واخلاصه ما زال فاعلا ً في شرايين الأوفياء من مناضلي هذه الأمة ومجاهديها.

المراجع

1-"الموسوعة الفلسطينية". المجلد الثالث. اصدار هيئة الموسوعة الفلسطينية. دمشق. الطبعة الأولى 1984. ص430-431.
2- "موسوعة السياسة" الجزء الرابع. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت. الطبعة الأولى 1986. ص 468- 469.

3- "قراءات الأمم المتحدة بشأن فلسطين والصراع العربي- الاسرائيلي". المجلد الثاني 1975- 1981. مؤسسة الدراسات الفلسطينية. بيروت. الطبعة الأولى 1994. ص9-10.

4- بعض مؤلفات الدكتور فايز صايغ، منها:

- "الدبلوماسية الصهيونية"(دراسات فلسطينية رقم 13). مركز الأبحاث. بيروت. أيار 1967.
- "الاستعمار الصهيوني في فلسطين" ترجمة د. عبد الوهاب الكيالي. مركز الأبحاث والمؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت 1965.
- "هل تعلم؟ عشرون حقيقة أساسية حول القضية الفلسطينية". مركز الأبحاث.
5- فايز سارة "معالم انسانية من المشرق العربي". (قضايا وحوارات النهضة العربية "24"). منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية. دمشق 1996. ص131 - 135.