Ain Warqa by George Chebli

عين ورقة بقلم الدكتور جورج شبلي

إنّ للجنّة باباً حدوده تطهير الأعمال ومغالبة الأهواء، غير أنّ مفتاحه هو زحف المعرفة الى المعرفة، هذه التي لها وحدها تُشَرِّع الجنّة ساحتها. وهناك، تقع المعرفة من نفس الجنّة موقع السِّحر، فتُباهي بها الملائكة، وتدفع إليهم ورقةً هي صحيفة رُسِمَت عليها عينٌ بالخطّ الأحمر، ليكون الأحمر أَدَلَّ على العناية وأَدَلَّ على القبول.

عين ورقة أمّ المدارس وآية القرن الثامن عشر، تلفَّتت الأَبصار إليها لأنّها مسقط رأس المعرفة ونَسَبُها. فمشايخُ الوقت وأعلام العصر جُرِّعوا من فيض جداولها، فشَبَّ نُبوغٌ في مفتاح حياتهم، وجرت بين أيديهم أسباب الغَلّة. ولأنّ وعدَهم بها مُتَّصل، والكُتبَ لا تُراجَعُ في قول، لم يخشَوا على بَصَرهم من نَسخ خزائنها، قبل أن تسلك بعدهم إليها أيام إهمالٍ ونسيان، والنسيانُ غالبٌ ربَّما لأنه مَبذورٌ في الطّينة.

عين ورقة مدرسة وقع حبُّها في عاطفتَين، هما إِنشاءُ الإِجادة على المَوهوبين من طلاّبها أهل العلم والنّباهة، وإضرامُ قوّة شَغفهم بها حيث أنّك لو سألتهم عن تحديد علوّ محلّها لَعَجزوا عجزاً مُبيناً. فتوصيف فواضلها مهما كان سخيّاً، لا يقدر على أن يدلّ على خَواص الصّفاء، هذه التي تتجاوز عوارضَ المعنى لتبلغ أجزاء الرّوح. من هنا، خرّجت عين ورقة من بساط صفحاتها بطاركة وأساقفة صاغوا في لاهوتيّتهم آيات، ومفكِّرين وأدباء كان لهم من عظيم نعمتها تَجوال في فلذات الإبداع. ونحن لو تعقَّبنا الذين قدموا على عين ورقة، وكانت محطّ رحال نبوغهم، لوجدنا أيامها للعلويّة والعلماء، والأدباء والشعراء، ولثمار الخواطر وصَوب العقول ليكون أصحابها أفراد عصرهم.

عندما كان النّاس ذوات أذهان صَدِئة، لا مَنفَذ لها في شعاع المعرفة، ولا مَدَبّ لها في نور العلم، سقطت إليهم عين ورقة تكشف عن وجه التعليم وعن صُوَر كيفية التدرّج من مَعينٍ لا ينضب ولا يَغيض. وهي لم تستمسك بفائدة العلم، ولم تضنّ بما عندها منه شَحّاً بثمرة الفهم، بالرَّغم من إدراكها أنّ النَّفعَ كثير والشّاكرَ بعد ذلك قليل. فقلّة الهَيبة إزاءها والتي تبدَّت في أَقتل المَعاطب، أي الإقفال وهو ذابِحٌ ما أَحدَّ شفرتَه، طمرَت وثباتِ التفوّق لصالح العاديّة، فليست كلّ المدارس مثل عين ورقة، تعقد قرانها على النهضة فيكونَ التحامٌ مع البراعة في القَفز الى النّضج.

ولأنّ عين ورقة الإكليريكيّة لا تعقل أنْ يُؤْمن الرَّجل بما لا يفهم، لم يؤرقها السُّهاد فقرَّبت بين المعقول والمنقول أو بين الفكر والعقيدة، فلامسَت فلسفةُ اللاهوت لاهوتَ الفلسفة. من هنا، لم يكن العقل في عين ورقة طقساً وثنيّاً، إنّه واحد من مفاتيح التأمّل في بدائع الخَلق، مُدمِنٌ على الغوص في نواميس الكون، ليلتقي صداه بصوت الله فتؤْمنَ الحكمة.

عين ورقة أماطت اللِّثام عن نفحة الريادة في لبنان، فبدت ضرَّة الشمس في إشعاع الثقافة، يغلب عليها الطَّبع في التزام هذه الأمانة، ولا ضياع على ما تضمّه أمانتها. فالمدرسة اجتهدت في الإفادة ممّا تركه الأوّلون من بدائع الفكر، ولا مؤاخذات على الإفادة، فما تركه هؤلاء لا تنبو عنه ميول المُتَلَقّين في أيّ عصر، لأنّ نفعه لا يقف على المُشتغِلين بالتاريخ فقط، بل كلّ مَن انتهى إليهم.

حين أتمّت حلقات عين ورقة عقدها، لم يضحك الدّهر سرّاً، وكأنّ المدرسة انتقلت من رسالة أنيقة الى حكمة بليغة، فكانت كتاب مكافأة صكّه الزَّمن ليشمخ به أنف العِلم في الشَّرق. فهي والرَّونق أخوا مُخالَصة، وليس بمُنكَر أن يشهد هو بفضلها ويصفها بأحسن ما فيها، فالمدرسة عادت بالخير العظيم آنذاك كما استشرف البطريرك الدويهي، لكنّ الخير انقطع والأسباب القاهرة لم يكن لها يَد في ذاك الإنقطاع.

إنّ عِشرة عين ورقة كانت تفتح أذنَيها لصوت السنابل والزنابق من القرائح، ولم يذهب الصوت سُدىً، بل اعتلى منصّة الأيام ليمدمك لنهضة ثقافية لوّحت شمسُها حضارةً أنهكها الإنحطاط. من هنا، لا بدّ من عودةٍ لهذه "السوربون" الى سابق عهدها، وحتماً بعد تقديم فرط الأشواق الى تقبيل الأيادي المقدّسة في هذا الوقت المبارك.