Elias Rababi

الياس ربابي بقلم الدكتور جورج شبلي

الكرجات في فنّ الخطابة لا تسكن إلاّ في صرخات الصّخور، أما الزوائد البسيطة التي لا بادئات لها ولا لاحقات، فيمكن أن تتوافر دوماً في لهجات التراب. من هنا، تكمن قيمة الخطبة في القدرة على شدشدة جسد اللغة الرّخو، وفي فنّ مشافهة الحضور بالتأثير ليلغي الحلولُ المسافة بين الّلسان والآذان.

الياس ربابي لم تستطع اللغة، على أهميتها، أن تحلّ رموز صفاء قوله، فمراسمها التي حبكت دقّة النطق، تهلهلَ صمودها أمام نقوشه. فالرجل المفعم بالأهمية لا يزاحم إلاّ نفسه، فوحدها قريبة الشّبه به، أما غيره فخطوطٌ منكسرة كُتبَت بلغة غير معروفة، حتى أنها انقلبت لغة ميتة، فهل صمدت نماذج الكتابة أمام الألِفباء؟ ففي الخطابة راح كل كلام يذوب حين حلّت الحقبة " الربابيّة "، فكيف تخلد النِّتف والشمول قواميس. والكشف عن نقاب أسراره صعب التلمّس، لأنه يفترض الوقوف في حضرة قرون من نشاط الثقافة، وغالباً ما لا تتكلّل التجربة بالنجاح، فميسورُ الإدراك زنودُه أضعفُ من أن تَستشعر قُبالة ربابي نشوة الفوز.

إن إشارة واحدة من اشارات الياس ربابي يمكن أن تُقرأ بوجوه مختلفة. فتارة يستدعيك كلامه الى التلمّس والحدس، وتارةً أخرى الى تفكيك الوضوح بيُسر. ولا بدّ من الإقرار بأن المادة التي يستعين بها هذا " اللسان "، ليست من فخّار لتستجدي الشمس، وليست من قصب لتستعطف الريح، إنها النار في قساوةٍ، والعصفُ المروّس. وخطوط ربابي زوايا متوالية لكلٍ منها قيمته المقطعية، وليست مجرّد تكوين عدد من الصفائح بالإمكان تبسيطها من دون معونة من مقاصده.

في خطب ربابي رسائل وحسابات، أو هي أقرب الى الشعائر الإستراتيجية. ولما كانت الخطابة حدثاً اتّصالياً، لم تستقصد نبرة ربابي حماس الناس وتَهتيفَهم، بقدر ما تضمّنت في بلاغتها حكمة ودعوة الى الإلتزام بالمبادئ والقِيَم. وهو لم يتكلّف الإقناع بعشوائية أو بفَرض، فالإقناع حجّة أو هو فنّ، أو مَهارة اجتباها الإبداع للبعض، وربابي في مقدّم هذا البعض، يتعرّض المُتلقّي له باختياره، وهنا يكمن تجاوز الخطيب أمام محكمة الإجتماع الشعبي.

نصوص ربابي ترميم لبناء التاريخ، يتلمّس فيها حاجات الوجدان ويحرّرها من دائرة المكان المُغلَقة، فيجعل الإنسان ينتصر على النسيان والزّمن، عندما تمتدّ كلماته جسوراً بين الأجيال والعصور، متجاوزةً عائق المسافة الزمنية بين الحَادثة والآن. إنّ البُعد التاريخي لبلاغة ربابي في خُطَبه، لا يكمن في الإخبار أو القَصّ، ولا في الكشف عن العلاقة التفاعلية بين الأزمنة ( وهذا ما يركّز عليه المؤرّخون السوسيولوجيّون )، بل في الإجابة الموزونة عن سؤال مِحوري مركزيّ هو : هل الإنسان صانع تاريخي، أم هو خاضع له يسير تحت رحمة الصدفة؟ وفي كل مرّة، تتحدّد إجابة ربابي بأنّ تسلسل ظروف الحياة لا يخضع لمخطّط قائم منذ الأزل في لوح محفوظ، ولا لمشيئة الحظّ، وأنّ الإنسان ليس وسيلة في يد الضرورة، فوقائع التاريخ خيارات وقرارات، وهذا يعني أنّ الإنسان هو فاعل تاريخي حقاً، وهذا هو فعل الحضارة لا التاريخ.

إنّ جسد الثقافة في أدب ربابي مُتَمَفصِل على اللغة التي بواسطتها يؤسّس الأدب للوجود. وإذا كان ربابي كأفلاطون يربط المعرفة بالفلسفة، فهو يعارضه في وَسم الأدب بالعاطفة ليجعله بذلك عدوّ المعرفة اللّدود. فالأدب مع ربابي ليس تقليداً رديئاً مُشَوِّهاً لنموذجه، وهو معزول بالتالي عن القيمة لعدم احتوائه على الفائدة، لأنّ ربابي يؤصّل أواصر التلاقح بين الفلسفة والأدب كونهما، كما يوصّف "هايدغر"، صورتين إنسانيتين للتعبير عن الوجود. ويضيف ربابي: إنّ وظيفة الأدب هي الوصول الى أكمل المقصودات الإنسانية، لذلك بات الأدب تَفَتُّحاً على كلّ ما هو أكيد في حياة الناس، وهنا قيمته.

الفكر والأخلاق والمجتمع، وهي ركائز الحقيقة عند ربابي، مرتبطة كلّها بالحرية. والحرية ليست أسطورة مُتعِبة ولا هي مرتبة رمزية يغلّفها الغامض، إنها حلم دخول الإنسان الى ذاته ليشعر بقيمتها فيسعد. إنها تَلَمُّس الطريق الى الثقة للتفوّق على الخوف، إنها الإنفكاك عن الكون والتطاول عليه ليبدع الواحد كونه على راحته. وهكذا انسحب مفهوم الحرية على كلّ ما كتب ربابي وخَطب، فوحدها الحرية معه تسحر الآلهة بصوتها العذب، ووحدها رمز للعنصر الإلهي في الإنسان.

لقد تصوّر ربابي حريةً في عمق كلّ فكر أو خلق، ونادى بها في كلّ محفل، حتى لكأننا عندما نصغي إليه، نسمعها تقول له: أنا المتكلِّمة فيك.

أما سلسلة المقالات النقدية، والنقد نَسَق يكشف الكوامن وعناصر التجاوز، فربابي فيها رسّام في التعليل والتحليل والتقييم.

من هنا، فمواقفه النقدية التي تنطلق من عدالة وثقة، تندرج في إطار نهج واضح مؤَصَّل على قواعد مؤيَّدة بقوة الملَكة بعد قوة التمييز. والرّجل واسع الإطّلاع قويّ العارضة، ثاقب الذّهن وبصير في أساليب البيان، الى جانب الذّوق والقريحة الملهمة والتمهّل والمراجعة، وهي خواصٌ تشكّل الفرق بين المحلّق والعاثر. وربابي يجيد علم حساب النقد، فلا مجاملة ولا مجازفة بل ميزان يرجح بالوزن لأنّ ربابي راجح في نفسه، لا يجهر إلاّ بما يراه حقاً، ولا يزوّق إشباعاً لحاجة أحد.

أما السَّبك فالفصاحة أمّه وابوه، فربابي يتقن صناعة إظهار الجمال البياني من دون زخرفة، وهي كفاية لا تشبه إلاّ ما ينتجه اللاعب بالذّهب بعد صَهره. وهذا الخطيب المرتجِل الذي يُصغى إليه من دون خدش، استثارت براعته في ارتجال السّبك مَن سمعوه فطربوا، حتى جعلوا منه عِياراً يوزَن به كلّ كلام. وقد قام حلو الصداقة والعِشرة بينه وبين الكلمات، يخالط مدنها بهوية واحدة، هي ملاحة الإبداع هذه التي لم يرث جرابه فيها أحد فحُبِس بعده القول. إنّ البلاغة هي السابقة الزمنية لعلم تركيب العِبارة وبناء النصّ، ومن دونها تصبح مورفولوجيا الكلام تَشَكّلاً تقريرياً وظيفته الإبلاغ ليس إلاّ، وهذا بعيد المطابقة مع أسلوبية ربابي القائمة على فلسفة الوعي للجمال والبراعة في صياغته. من هنا، لا يمكن فهم الجليل في الجميل عند ربابي من دون الحصول على شهادة الإمتياز في علم التذوّق.

الياس ربابي النبيل النفس الذي أَعجزَ الأوائل والأواخر، والذي لا يمكن أن تسمعه دفعةً واحدة، فجِرار السَّمع سرعان ما تفيض، لم يكن يوماً إلاّ صنّاجة لبنان.