admin
Site Admin
Joined: 09 Mar 2007 Posts: 529 Location: Jbeil Byblos |
|
Khalil Taqi al Din |
|
خليل تقي الدين بقلم : الدكتور جورج شبلي
الأدب ليس فرعاً من فروع الفكر، بقدر ما يشكّل منه المركز. وإعادة الشرعيّة الى الأدب أنّ في داخله برهة وجدان تُنتِج فكرة عن العالم، أو رؤية له متجاوِزة، فهو ليس مُظاهرةَ عَرافَة تحدُّ من طغيان الواقع المادي المُتَسَلِّط على الحياة. فأوّل شأنٍ أولاه الأدب همّه، هو إضفاء حياة على الحياة، فلا يضيع منها شيء، كالإيمان بأنّ الصلاة المنقوشة في تماثيل الآلهة هي تضرّع دائم لحفظ سرمديّتهم.
خليل تقي الدين يطمح الى تأليب الأدب على المجتمع لحمايته، فالشياطين الذين يسرحون في جنباته، من أصلٍ نصف إلهيّ، وجودهم ليس صدفة، واستيلاؤهم على الناس أسهل من الإنقضاض على الفرائس. لم يعمد تقي الدين الى غسل الممسوسين وحرق الأعشاب ليرغم الشياطين على الخروج من جسد الناس، بل مارس سحراً قانونياً ليس في متناول الجميع، أنزله في صفائح محفوظة، وهو عربون المصالحة بين الحياة والقِيم، إنه الأدب الذي وحده يرمّم بناء الواقع ليبدو أقلّ حزناً وبؤساً. وهكذا انتقل الأدب مع تقي الدين من وظيفته كحِلية بديعية أو لون من العَبث، كما يحسبه البعض، الى قيمة أضفتها عليه إِلفتُه للمجتمع.
لقد تبنّى خليل تقي الدين أنّ الله خصّ الآدميّين برجحان العقل وجودة الفهم ودقّة التمييز، لكنّهم لم يرعوا ذلك حقّ رعايته، وقالوا عليه الزّور فضلّوا. وجالستِ الهفواتُ الناس، ونشأت بين أيديها محرّماتٌ تستثير الأسف، وتَمكّنَ التّغاضب من الخُلق فأضناه. ولم يكن بدّ لتقي الدين، وهو الهادئ الرّصين الذي لم صرف وجاهته لترقيع حال، من أن يتصدّى للقبح الذي سَوّد وجه مجتمعه، تصدّياً تبع فيه أحكام الفضيلة والعلم، وقد فعل ما أحبّ. ففي " فارس الشامي" صرخة تحتجّ على التقاليد المتوارَثة التي تؤلِّف عصبيّات مَرصوصة مُتجافِيَة، تستأثر بالناس ليصبحوا ضحاياها. وفي " طريق الوجيه " أو طريق الواقع الحزين الذي يرسّخ الدنيا فريسةً للشّاطر، يقع البُسطاء في جِبّ الزعامات ولا يحصدون إلاّ الخيبات المَريرة.
أمام صور الشقاء في صميم الحياة المُتردّي، إندلع في نفس تقي الدين صراع بين طبيعته الطّاهرة وبين براثن الشرّ، فاستعجل حملةً شعواء على مبتغيات مجتمع لا يستمتع من ناسه إلاّ بحفلات " الإعدام ".
لم تكن خواطر خليل تقي الدين الرومنطيقيّ في ما خصّ الأدب "خواطر ساذج"، لكنّه طاف في صحن دار الأدب، وكشف النِّقاب عن وجهه، ولم يعد كاسِف المُحَيّا أو يَقَعْ صريعَ زفراتٍ يلفظها مع الأنفاس، حامِلَةً معاني الجزع واليأس. فالأدب معه قبائلُ أَخرجت من طيّاتها مدنيّات عظيمة، فأوجب ذلك الاغتباط. وقد استُفتِي في أمره، فاستهجن ما أشاعه بعض الرّاسِخين في شِحّ الفهم، من أنّ الأدب ليس سوى بقيّةٍ من بقايا عصور الجهل والأميّة. فالأدب مَزارٌ، حولَه حرّاسٌ فخريّون، والطريق إليه جسرٌ من العقول والعواطف، قيمتُه في وَفرة الوافِدين إليه ولا انفضاض، يتناشدون التّهاليل وكأنّهم يستلمون الحجر.
التجديد في الأدب لم يكن مع تقي الدين حَفْلَ استسقاء يُلتَمَس فيه هَلُّ الغيث على أرض عطشى. فانحباس التجديد هو تَعريض الأدب للجَدب، وحرمانٌ من صنوف الانفتاح الذي يصون من القحط والإمحال، فلا ينبت على الصفحات سوى الشَّوك. لقد شنّ تقي الدين مع " عصبة العَشرة " حرباً على الأساليب المُكَرَّرَة، ليَمنع وقوع حَيفٍ على الأدب، وليشدَّ أَزره فكأنّ ما يربط بينهما صِلَة دم. هذه الغيرة على النّقلة بالتجديد، تسعى الى أن يختبر الأدب ولادة جديدة، وأن يشعر الأديب شعور عصره، ويكوِّن له شخصية تميّزه بصبغة تخالف الصفات التي كان عليها بعض مَن سبقوه.
خليل تقي الدين يكتب لنفسه قبل أيّ شيء، فتكون نفسه أَمْلَحَ ما يكتب. ولئن اعتبرَ البعض أنّ هذا أَخطَرُ مَقتَل في صنعة الأدب، لأنه يعزله، غير أنّ وَقْفَ الفنّ على النفس لهو وَهبُه للدفاع عن آفاق الوجدان، والسُمُوُّ به من آصار المادة الى عوالم الحقّ والجمال. من هنا نجحت منثورات تقي الدين في أنّها أشعرتنا بوجوده، فواجهنا شخصية وقفت من المجتمع وِقفة نضال لاذِع، ومن الأدب وِقفة عناية بهذا السِّفر النفيس.
|
|