Hassan Kamel al Sabbah - Joseph Daher

حسن كامل الصباح "فتى العلم الكهربائي" من كتاب وجوه لجوزف ابي ضاهر

من الجنوب أشرق الضوء مغايرا ً. أولى الدلالات ولادة سجلتها النبطية، كبرى بلدات جبل عامل، في دفتر واحدة من شجرات عائلاتها المعروفة:

ولد للحاج علي الصباح والحاجة آمنة رضا صبي، أعطي اسما ً جمع بين التبرك والتطلع الى كمال هو في صفات الخالق: حسن كامل.

وأما تاريخ هذا الحدث، الذي سيغير في تطوير مجريات الحياة، فشهر آب من سنة 1895.

سنوات ست مرت، والصبي يلعب مع أترابه في تراب الأرض التي تنتظر منه زرعا ً غير زرعها، وثمرا ً غير ثمارها، وغلالاً تفيد منها البشرية جمعاء.

بعد سنة من مطلع القرن العشرين، أرسل الصبي الى الشيخ في "الكتاب". كان تكوين المعرفة بدأ يوسع له مساحة لأول أحرف الكلام تهجئة، قبل ميل الى ما هو أوسع من كلام.

بيت الأهل بيت علم ومعرفة وتقوى، يضم الى جانب المؤن مكانا ً مخصصا ً لأعداد وافرة من مجلتي "المقتطف" و"العرفان"، وفيهما من البحوث العلمية والأدبية ما حفز عمه الشيخ سعيد الصباح وخاله العلامة الشيخ أحمد رضا الى طلب مزيد يخلق مناخا ً للعلم أثر ايجابا ً في الصبي الذي انتقل الى المدرسة الابتدائية... وفيها ظهرت أولى بشائر ذكائه وجديته، وتمايزه عن رفاق صفه وعمره.

عن هذه المرحلة كتب الصباح، بعد ربع قرن، مقالة ً نشرت في جريدة "صوت الأحرار" (31 نوار 1935) وفيها:

"... كان خالي الشيخ أحمد رضا كثير الاهتمام بدرس الحقائق الكونية، طبيعية كانت أم اجتماعية، أم روحية، وكان للغة العربية وآدابها المنزلة العليا في نظره، وقد سادت تلك الروح على من حولها من الأقارب، لهذا كانت أمي وشقيقاتي مولعات بآداب العرب وأشعارهم ونوادر عظمائهم، فأصبحت أنا بحكم الطبع أنظر الى آداب العرب وعلومهم نظرة طموح وأمل، وكان ذلك مبدأ قوميتي الشديدة وطموحي العلمي، وما زلت أذكر النصف الأخير من ليالي رمضان حيث كانت أمي تجلس في فناء الدار وتحدثني عن أمجاد العالم العربي، منذ عهد الأمبراطورية العربية الأولى الى عهدنا الحاضر، وأنا أردد أبيات أبي العلاء، وأبحث عن النجوم التي ذكرها في قصائده وأشار اليها. هكذا بدأ هيامي بدرس الكون وحقائقه".

الى الاعدادية...

في خريف سنة 1908 نقل حسن كامل الى المدرسة الاعدادية السلطانية في العاصمة بيروت. وسجل تفوقا ً على مجايليه، استمر في العطلة الصيفية حين عودته الى النبطية حيث لازم غرفته الخاصة محاولا ً تطبيق نظريات علمية، وحل مسائل رياضية في تجارب بسيطة.

وصف هذه المرحلة في النصف الآخر من المقال السابق ذكره:

"بعد مضي سنة على دخولي المدرسة السلطانية في بيروت، اقتصدت من مصروف جيبي الخاص ثمن كتاب الجبر لفانديك، وقرأته أثناء العطلة المدرسية، فوجدت لذة عظيمة في حل مسائله، وكان لا يزال بيني وبين درس الجبر في المدرسة خمس سنوات، والسبب الذي دعاني الى درسه عثوري على عبارة لم أفهمها في كتاب"أصول الطبيعيات" لأسعد الشدودي. وبعد ذلك وجدت أنني بحاجة لكتب اقليدس وقرأتها خلال سنتي الاعدادية الثالثة. وهنا وجدت أن الكتب العربية والتركية في الرياضيات توقفني عند حساب المثلثات، فوطدت العزم على درس اللغة الفرنسية، ثم حصلت على مجلدين في حساب التفاضل Differential calculus للفرنسي ستورم، فوجدت صعوبة في فهمه لضعفي في اللغة الفرنسية. وكثيرا ً ما كنت أبدأ النظرية حتى اذا فرغ صبري من معالجة التعابير الفرنسية أغلقت الكتاب وحاولت معالجتها بدونه، وكنت في أغلب الأحيان أتوصل الى النتيجة، ولهذا صرت أعتقد أن الرياضيات والمنطق هي خواص ثابتة في العقل البشري، وما تعلم الرياضيات الا لاكتشاف تلك الخواص. وكم كان سروري عظيما ً عندما قرأت رأيا ً يشبه هذا الرأي للانكليزي أدينغتون".
سنواته في الاعدادية السلطانية أظهرت نبوغه، فاحتكر الأولية بين رفاقه، وحصل على مجمل الجوائز التي كان الوالي يقدمها للمتفوقين من التلامذة.

...فالجامعة

بعد أشهر أربعة من قرع طبول الحرب العالمية الأولى، التحق الصباح بقسم اللغة الانكليزية في الكلية السورية الانجيلية (الجامعة الأميركية لاحقا ً) مدة عام دراسي فأتقن اللغة، ما أهله للانتقال الى صف "الصوفونور" Sophonnore. وأظهرت أوراق علاماته الشهرية تفوقه الواضح، وبوادر نبوغه.

ذكر ذلك الدكتور فؤاد صروف في كلمة كتبها لتلقى في النبطية احياء ً للذكرى الثلاثين لغيابه (نيسان 1965) وفيها:

"خلال الحرب العالمية الأولى، جاءنا (الى الجامعة الأميركية) طالب عاملي، أسمر كالحنطة أو أغمق، سمهري القوام، عالي الجبهة، في محجريه عينان سوداوان براقتان نافذتا النظر. ولم نلبث حتى شاع بيننا أنه شيطان من شياطين العلوم الرياضية، فلم يترك فرعا ً من فروعها الا وأقبل عليه، بلهفة وشوق، وما كان يشاهد غير متأبط كتابا ً في حساب التمام والتفاضل، أو المعادلات المتخالفة. وشهد له أساتذته وأقرانه بالبراعة والتفوق، فصار له عند الطلبة، الذين كانوا مثلي ينفرون من العلوم الرياضية لقصر باعهم فيها، مكانة خاصة".

اهتمام بالعلوم

وجه الصباح اهتماما ً خاصا ً بالهندسة الكهربائية، وكادت الأقساط المرتفعة في الجامعة تمنعه من المتابعة لولا تدخل البروفسور "هال" (رئيس قسم الاستعدادي)، وتسديد المبالغ المطلوبة من جيبه الخاص.

الاهتمام الكبير للصباح بالعلوم لم يمنعه من التطلع الى المشاكل التي تعانيها بلاده، والافصاح عن رغبته وأمانيه بأن تزول السيادة الأجنبية عنها، فألف مع زميله في الدراسة (الدكتور) نقولا شاهين جمعية سرية ثنائية للعمل من أجل التحرر من الاستعمار التركي. ولا غرابة في ذلك فخاله الشيخ رضا كان من رجال الاصلاح في جبل عامل، زرع بذور اليقظة الوطنية والفكرية في أبناء جيله، وناضل في سبيل الحرية مع رفاقه: الأمير شكيب ارسلان، عبد الكريم الخليل، سعد الله الجابري، ياسمين الهاشمي... فحكم عليه العثمانيون، ونقم عليه الانتداب الفرنسي، وعنه أخذ حسن كامل "النبرة" التحريرية التي ظلت جذورها مشتعلة في داخله.

استدعاه الجيش العثماني الى الخدمة العسكرية الالزامية في 21 شباط 1916. فالتحق بسرية التلغراف اللاسلكي في "كاشان"، تعلم في خلالها اللغة الألمانية وأتقن التركية.

بعد أشهر سبعة (19آب) رقي الى رتبة ملازم أول الى حين أنتهاء الحرب واحتلال الحلفاء الأستانة، فسرح من الخدمة وعاد الى دمشق ليعين مدرسا للرياضيات في مدرسة التجهيز الدمشقية.

لم تطل فترة التدريس في دمشق. رجع الى بيروت (28 آب 1921) ليتسلم مهام أستاذ للرياضيات في الصفوف الثانوية في الجامعة الأميركية، مدة سنة واحدة، قرر في خلالها السفر للتخصص في فرنسا. وأرسل الى خاله الشيخ أحمد يطلعه ويسأله المساعدة في توفير قرض (600ليرة) من يوسف بك الزين حسب شروط حددها بأربعة:

"مادة أولى: أن آخذ على عهدتي واسمي كل التعهدات الهندسية التي يريدها بشرط أن لا يكون لي أقل من نصف الأرباح، مدة أربع سنوات، بعد اتمامي دروس المدرسة المركزية في باريس.

مادة ثانية: أن لا يكون لي الحق بأن أتعين أثناء تلك المدة الا برضاه، واذا خالفت أدفع ثلاثة أضعاف المبلغ الذي يساعدني فيه بكفالة نتفق عليها.

مادة ثالثة: أن أكون مهندسه ومستشاره الخاص فيما بعد الأربع سنوات المذكورة أعلاه، والا أدفع له المبلغ الذي يساعدني فيه مع الفائض المقرر.

مادة رابعة: اذا حدث لي حادث قضاء، يدفع له الكفيل المبلغ مع الفائض".

... ولفت الصباح خاله الى "عظيم الأرباح الناتجة والتي ستنتج من التعهدات الهندسية (...) وأن توزيع قسم من مياه الليطاني على القرى حتى الساحل، واستخراج قوة كهربائية من القسم الآخر مسألة ممكنة تعود بالأرباح الطائلة، وأمثالها الكثير من التعهدات... وسأله شرح ذلك بالتفصيل لل"بك".

الى أميركا

لم يتمكن الصباح من الحصول على القرض، برغم "المغريات" التي سيوفرها للدائن، ولمن يمثله.

قرر السفر الى أميركا وسافر، والتحق بمعهد ماسا شوستس للتكنولوجيا حيث كانت تجرى التجارب الذرية.

نظرا ً لنجاحه في الامتحان الصعب الذي خضع له، فور وصوله، أعفي من جميع الدروس الرياضية في برنامج المعهد، وأمدته جمعية الشبيبة السورية في نيويورك بمبلغ مئتي دولار، لم تكف للأقساط، فترك المعهد بعد أشهر سبعة، والتحق بجامعة ايلينوي Illinois مدة سنة نال في نهايتها "شهادة ماجستر في الهندسة" M.A. ولقب "فتى العلم الكهربائي".

في العاشر من آب 1923 تقدم بطلب للعمل في شركة جنرال الكتريك، وبعد عشرة أيام وقع عقدا ً معها ب "أن تكون جميع اختراعاته ملكا ً للشركة، وأن تكون الشركة المنتفعة الوحيدة من عائداتها، على أن تمنحه بالمقابل مكافأة رمزية مقدارها دولار واحد عن كل اختراع".

بدأ الصباح العمل في الشركة براتب لا يتجاوز 17 دولارا ً في الأسبوع. ثم رفع الى 25 دولارا ً. أما نص الاتفاقية بينه وبين الشركة فالتالي:

المكان: سكنكتدي - التاريخ 20 آب 1923

"بناء على تسلمي العمل في شركة جنرال الكتريك، فانني أوافق: بأن أرسل علما ً الى دائرة التسجيل بجميع الاختراعات التي أتوصل اليها أو أستنبطها، أو التي تتم معي أثناء عملي من حين دخولي الشركة حتى خروجي منها في حقل الكهرباء، وجميع أعمال ومصالح الشركة وأبحاثها، أو أعمال ومصالح وأبحاث الشركات التي لها علاقة ما معها. وسأساعد الشركة وأصحابها بكل وسيلة ممكنة (على نفقتها أو نفقتهم)، للحصول على المنفعة العائدة لها ولهم من جراء تسجيل هذه الاختراعات في قطر معين، أو في جميع الأقطار، وتبقى الاختراعات التي عملناها أثناء عملي في الشركة ملكا ً للشركة، أو أصحابها، سواء كانت مسجلة أو غير مسجلة قبل دخولي الخدمة. وأرغب أن لا تشمل هذه الاتفاقية الاختراعات التي اكتشفتها قبل دخولي الشركة".

الشاهد م.بون - التوقيع ح ك صباح

"مهندس ممتاز"

لفت نبوغ كامل الصباح المسؤولين في الشركة منذ يومه الأول في العمل. بدأ يخترع ويستنبط أجهزة وآلات وأساليب جديدة في عالم الكهرباء، وتحويل مسائل نظرية الى حقائق تطبيقية... فرفعته الشركة الى رتبة "مهندس ممتاز"، وخصصت له مختبرا ً، ووضعت في تصرفه مكتبا ً خاصا ً، وعينت مهندسين يعملون بادارته، ووفرت أجهزة وآلات لتحقيق تجاربه العلمية، وسجل معظمها في الدوائر الرسمية المختصة في: واشنطن، بلجيكا،كندا، انكلترا، فرنسا، ايطاليا، اليابان، اسبانيا، استراليا، الهند وجنوب أفريقيا.

وضع الصباح مجموعة من البحوث والدراسات حول الكيمياء الحرارية والكهربائية والضوئية والنووية. كما وضع بحثا ً في الفلك وطرق تحديد الوقت والأجهزة المستخدمة في ذلك، وعن الرصد وطرقه وأنواعه والنسبية ومعادلاتها الزمنية... وأيضا ً كتب في الرياضيات وغير ذلك الكثير من البحوث التي نشر بعضها في الصحف والمجلات العلمية المتخصصة، ولاقت تقديرا ً كبيرا ً من الباحثين والعلماء.

أما اختراعاته في حقل الميكانيك الكهربائي – المغنطيسي فأبرزها ما يتعلق بالبث التلفزيوني وارسال الصور والمناظر، أجهزة التحكم في الضغط، جهاز القوس الكهربائي البخاري، جهاز لقياس الضغط، جهاز لتغيير الطاقة الكهربائية، أداة تفريغ كهربائية، طريقة اطلاق الوهج، وسائل لمنع اختلال التوازن في نظام التوصيل المركب للمقومات، ضوابط منع الانفجار، وغيرها الكثير مما سرع في التطوير العلمي الذي عرفه العالم لاحقا ً... ولعل من أهم هذه الاختراعات الجهاز الذي يحول أشعة الشمس الى تيار وقوة كهربائية، وسجل هذا الاختراع في واشنطن وفي 11 دولة أخرى.

عن هذا الاختراع المهم كتب الصباح: "تمكنت من استنباط بطارية كهربائية ثانوية يتولد بها حمل كهربائي بمجرد تعرضها لأشعة الشمس. ولبيان ماهية هذه البطارية أقول: لنفرض أننا وضعنا عددا ً منها يغطي مساحة ميل مربع في وسط الصحراء العربية حيث لا غيوم، فالقوة التي يمكن استصدارها من الشمس عندئذ تكون مئتي مليون كيلوواط أو مئة وأربعين مليون حصان، واذا حملنا البطاريات بالحمولات الكهربائية من أشعة الشمس في الصحراء العربية نكون كأنما عثرنا على آبار بترول، لأن الذي يجعل البترول ثروة هو مقدار الطاقة التي يحتويها بين دقائقه، ولنفرض أننا أسسنا مزرعة بطاريات شمسية كهربائية تسير بتلك البطاريات عوضا ً عن البنزين، فيقف سائق السيارة عند مزرعة بطاريات ويستبدل بطاريته التي استعمل مخزونها الكهربائي في تسيير سيارته ببطارية قد ملأتها أشعة الشمس، وبهذه الوسائل ومثلها يمكن تحويل الصحراء العربية الى مدن عامرة آهلة بالسكان، فيعود اليها مجدها السابق وعندئذ نحرر الشرق العربي من الغرب، وندفع بأجياله نحو المدنية والتقدم (...) لقد توصلت لهذا الاكتشاف بأدوات أشتريتها من مالي الخاص، ومع ذلك فان الشركة لم تسمح لي بأخذ امتياز باسمي، وهي ستستثمر هذا الاختراع، ولو كنت أعمل لحكومة من الحكومات العربية لرجع هذا الربح لها، وهو عبارة عن ثروة كاملة".

أحلامه لم تتحقق

مساعي الصباح نحو الدول العربية ذهبت أدراج الرياح، وذكر في احدى رسائله (قبل وفاته بأشهر أربعة): "ان ملوك العرب مشغولون بالسياسة، أما لجهة التقدم العلمي والعمراني وجلب المخترعين والمكتشفين الى ديارهم فهم في غنى عن ذلك".

...وفي رسالة أخرى وجهها الى الشيخ خليل بزي كشف فيها عن اختراع مغاير لاختراعاته السابقة، وهو عبارة عن بلسم مطرً للوجه يستخدم للحلاقة: "لدي اختراع مهم ربما تمكنا أن نستدر منه مالا ً كثيرا ً هنا. هو خليط من زيوت أكثرها بلسم مطري فيه شفاء وطراوة وراحة للبشرة، اذا بللت وجهك ولحيتك بالماء، ثم دهنتها برأس اصبعك الواحدة من هذا الخليط الزيتي يمكنك أن تحلق لحيتك بكل أنواع الأمواس ما عدا (الجيليت)، ثم بعد أن تنتهي من الحلاقة امسح الوجه بورقة ناعمة، ولا لزوم لغسله بالصابون لأن هذا الخليط الزيتي مفيد ومطر للبشرة والزجاجة تكلف مقدار خمس سنتات، ويمكن بيعها بعشرين سنتا ً. فاذا كان لديكم من أبناء الوطن من يمكنه أن يساعد على عمله فاني أمنحه كل الأرباح ما عدا مقدار ثلاثين بالمئة لي. اني مرسل لك النموذج لتجربته".

... وذهب الاختراع الجديد الى غير موقعه، كما ذهب غيره، وظلت الحكومات العربية تتلهى بعد حبات رمل الصحارى وأيام حكمها، ولمن ستورثه.

مشاكل وصعوبات... وآراء

واجهت الصباح في عمله وحياته اليومية مشاكل وصعوبات، وبرغم ذلك حلق في سماء الفكر كاشفا ً عن كتاباته الأدبية والشعرية وعن آرائه في السياسة والدين والمجتمع في رسائل الى أهله. وأما الحنين الى بيئته فنافذة تطل على ظلال الذاكرة.

من بعض ما كتب نقتطف:

21 أيلول 1922
"سيدتي الوالدة: أعيد الآن الى مخيلتي تلك الأيام المملوءة بالحزن والحسرات وأتمنى استبدال أيامي الحاضرة بها، وما ذلك الا لسبب واحد وهو أنت أماه. كنت كلما حامت حول دماغي شظايا الكدر والحزن وغبار اليأس وغمام الخيبة أسبلت عليها رذاذا ً من حنانك ونصائحك حتى أعود وكأني ولدت من جديد.

عظاتك ونصائحك رسخت في دماغي ولم آبه بها نظرا ً لغرور فاسد وادعاء فارغ كان في (وأظنه موجودا ً في كل رجال بلادنا)، حتى رجعت الآن لنفسي أعيد عليها ما تركته فيها من الآثار، فرأيت اني بحاجة قصوى اليك أمي".

29 تموز 1923
"سيدتي الوالدة، انني بشوق زائد لمخاطبتك (...) لا أزال أذكر أيام الطفولة وما يتعلق بها، وأذكر الأماكن التي كنت ألعب فيها، أذكر كرم اللبن والوطى حيث كنت أركب الحصان وعلى الأخص حيث سقطت مرارا ً عن ظهره. أذكر درجات "الليوان" حيث كنت تقعدين مساء ً مع لفيف من الجيران: "أم محمد ضاهر" مثلا ً، وتلقين عليهن بعض القصص الحكيمة".

11 حزيران 1925
"تكاد نفسي أن تزهق من بقائي في هذه المدينة. فان أهلها الساقطين لهم أدمغة البراغيث، وأخلاق القرود، وألسنة حادة لا يجردوها الا على من كان غريبا ً وحيدا ً مثلي".

6 آذار 1930
"ان المتنفذين السياسيين يشددون اختلافاتهم ليحفظوا مراكزهم، وتذهب مصلحة البقية، بل نفوسهم، ضحية تلك الاختلافات، فيا حبذا لو استقل عمي وخالي عن أولئك الرؤساء السياسيين وكانا هما رئيسي فضل وعلم وشرف، فذلك خير لهم بكثير من الرئاسة السياسية".

من أقواله
. العقل هو العين التي نرى بها الله، وهو الواسطة التي نرتكز بها على الحقيقة.
. ان ذا العقل الكبير يكون بعيد النظر، فيرى أن أنجح السبل وأسلمها وأربحها هي اجابة صوت الضمير.
. خير واسطة للامتناع عن الأعمال المضرة، هي أن يسيطر على المرء شعور بعزة النفس والاباء.
. يرى الانسان عيوب سواه ولا يرى عيوبه، لأن عيوبه جزء منه، لذلك من الصعب عليه ملاحظتها.
. يجب اخراج الأخلاق من الطقوس العمياء والقوالب المحجرة الى دور التجربة والاختبار المتين.
. خير وسيلة للقيام بعمل اصلاحي هي تثقيف رجال الدين وتعليمهم العلوم العصرية أصولها وخلاصتها.
. أرى أن حاجة المرأة الى الرجل في البلاد الشرقية، واعتمادها عليه في حياتها ومعيشتها، هي من أسباب استبداده بها.
. العلم بلا وسائل مادية لتحقيق غايته، ونفوذ يدعم صاحبه لا يجدي نفعا ً في البلاد العربية.
. أرفض بشدة أن يرفق اسمي بلقب من الألقاب التي اعتاد الناس أن يخروا لأصحابها سجدا ً، تلك الألقاب التي استعبدت أناسا ً كثيرين في بلادي.

من شعره
"نحن قوم تذيبنا الأعين النجل على أننا نذيب الحديدا
خضعت للحسان منا نفوس أخضع البرق برقها والرعودا
بقوى الكون نستبد ولكن لمحيا المهى نخر سجودا

في الموسيقى
"تيسر لي أن أطلع على الموسيقى الغربية من ألمانية وبولونية كمؤلفات بتهوفن وشوبرت، وروسية كمؤلفات رمسكي كوساكوف مؤلف شهرزاد، وايطالية ك"عايده" فردي، فرأيت بعضها يحدث في النفس أرق الشعور ويحرك ألطف العواطف، وبعضها يعيد اليك أجمل الذكريات وأحلى الكلام، بينما النغم الآخر يدفع بك الى تيار اليأس وهجر الأسى ويملأ قلبك حزنا ً وندما ً على ما فات ويفوت. والبعض يحرك لواعج الشعر لمن تحب، والآخر يثير عواطف الحمية والهمة والنقمة على ظالميك".

"الموسيقى لسان آخر أشد افصاحا ً من الكلام".

مرضه والأعداء والموت

أخفى الصباح عن أهله حادثا ً صحيا ً أقعده عن العمل مدة أسبوعين (كانون الأول 1924)، بعد خضوعه لفحص دقيق على الأشعة في عيادة طبيب مشهور في سكنكتدي (ج.م. سكوت) وجاءت النتيجة في رسالة تسلمها: "ان نتيجة الفحص والتحليل أثبتا أنك مصاب بهيجان عصبي، وهذه الحالة بدأت معك منذ أوائل 1918، واستمرت بواسطة عوامل عدة، وتلقيت كيا ً كهربائيا ً حوالى نوار 1924 مما ساعد على الهيجان. أرى من الواجب أن تستريح مدة 12 ساعة في الفراش كل 24 ساعة، ويجب، مع استعمال الأدوية اللازمة، أن تقلل من تناول المواد السكرية كالمربيات على اختلاف أنواعها والكعك والسكر. وهناك تسرب عضوي في القلب، ولكنه ليس ذات أهمية اذا استعملت التعليمات اللازمة ونلت القسط الوافر من الراحة والمداواة. ويجب أن تهتم بانتقاء طعامك، فاختر الطعام السهل الهضم. لا ضرورة لأي خوف.

المطلوب أن تكون مرتاحا ً، منشرح الصدر، واذا أردت مزيدا ً من التعليمات فدعني أراك في القريب".

قبل شهرين من هذا الحادث الصحي كان الصباح اشترى سيارة تراوح ثمنها بين 500و600 دولار. وفي كانون الأول من السنة ذاتها اشترى طائرة لتقله في الربيع التالي الى البلاد العربية، حدد ثمنها ب 850 دولارا ً، دفع منها 300 دولار وترك للشركة سيارته تأمينا ً عن الباقي من ثمنها، على أن يتم التسديد أقساطا ً شهرية.

لم تكن هذه الفترة من حياة الصباح سهلة. وهو كتب في احدى رسائله الى أهله (29 آذار 1935):
"انني أجتاز الآن مرحلة صعبة خطيرة. أسأل الله أن ينجيني منها، فادعوا لي لأن دعاءكم ورضاكم قد يخلصاني من أعداء ألداء (!) يكيدون لي دائما ً، ويسعون لزحزحتي من طريقهم".

حدس الصباح كان في موقعه، و"الأصدقاء" الألداء كانوا يتربصون به من دون أن يكشفوا عن وجوههم. ولكل واحد منهم أكثر من وجه وغاية.

صباح يوم السبت 30 آذار 1935 اقترض من أحد مستخدمى الشركة 600 دولار (بكفالة رئيس الشركة)، ليذهب في اليوم التالي مع "صديقين" (!): جدعون بوجل وزوجته بسيارتهما الخاصة الى مدينة "مالون" لتسديد ثمن الطائرة وانهاء رهن سيارته الخاصة. ويطلب من الصباح تبادل ورفيقيه السيارتين، هو قاد سيارتهما، وجدعون قاد سيارة الصباح الذي اختفى بالقرب من مدينة اليزابت.

تدهورت سيارته في واد سحيق. حمله بعض المارة الى المستشفى، وما لبث أن فارق الحياة...

ورد في تقرير رجال التحري "أن جسمه وجد بحالة جيدة، ولم يجرح أي جرح". ويقول التقرير بالحرف: "وجد في مقعده مستواً كأنه قتل (!) للحال".

هل في الحادث جريمة؟

الطبيب الشرعي لم يستطع تحديد سبب الوفاة التي لفها الغموض ومجموعة من التكهنات والألغاز والهمس وراء دوافع وأسباب مختلفة. لم يكشف الى اليوم – بوضوح – عنها، وحفظت في المجهول.

والد كامل الصباح تسلم – بعد الحادثة – رسالة من شركة جنرال الكتريك وفيها:
"نأسف شديدا ً لاضطررنا الى اخباركم بمأساة ولدكم في الأسبوع الماضي. عملنا بما أوعزتم به الينا بشأن الدفن. واسمحوا لنا أولا ً أن نشارككم شعور كم بهذه الخسارة الفادحة التي نزلت بكم.

"ان ولدكم كان يزداد شهرة كمفكر لامع في حل المعضلات الهندسية والرياضية، وتقدمه السريع كان يبشر بمستقبل باهر، وقد برهن ولدكم أثناء خدمته شركتنا على أنه من أعظم المفكرين الرياضيين في البلاد الأميركية، وان وفاته تعد خسارة كبرى لعالم الاختراع".

أقيم لحسن كامل الصباح في سكنكتدي مأتم مهيب يوم الجمعة في الخامس من نيسان، وحفلة تأبينية، وحفظ الجثمان في ضريح خاص ليصار نقله الى الوطن في التاسعة من صباح الأربعاء 8 نوار 1935 على الباخرة "بيرون"، مع اكليل من الزهر بعث به رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأميركية فرنكلين روزفلت.

يوم 28 نوار وصل الجثمان الى مرفأ بيروت، وبعد ثلاثة أيام شهدت العاصمة مأتما ً وطنيا ً رسميا ً أقيم له في الجامع العمري، ونقل الى مسقط رأسه في النبطيه في الأول من حزيران 1935.

...وأقفل الكتاب على حكاية عظيم ما حظي بما استحق من ذكر وتكريم