Docteur Souhaila Saadeh

الدكتورة سهيلة سعادة

كانت المبادرة الأولى في اختراق التقاليد القديمة التي تحبس المرأة في دور الحريم، هي تلك التي قامت بها الآنسة سهيلة سعادة، وذلك حين ألقت ازارها عن كاهلها وأسفرت عن وجهها وأقدمت على دراسة أصول التمريض وعلم التوليد في بيروت ولندن ودخلت في التاريخ كأول سافرة من بنات الحجاب في لبنان، على حد قول جرجي باز الذي قدمها لقراء مجلة الكشاف الصادرة في كانون الثاني 1928.

وعندما صدر الجزء الرابع في المجلد الرابع عشر من مجلة "العرفان" لصاحبها الشيخ أحمد عارف الزين نقل عن مجلة "المرأة الجديدة" ما كتبته صاحبتها جوليا طعمة دمشقية تحت عنوان: تعليم الفتيات في بيروت "الدكتورة الآنسة سهيلة سعادة، هي أول فتاة مسلمة عربية سافرت لبلاد الغرب وتخصصت في فن التوليد في أكبر جامعات انكلترا ومستشفياتها، وهي بيروتية".

والآن، وقد مر على مبادرة المغامرة لسهيلة سعادة ما يزيد على سبعة عقود من السنين فاننا نقدم لأبناء زماننا سيرة قلمية لهذه الآنسة التي يصح فيها القول بأنها صانعة البارود الذي فجر الانطلاقة الأولى للفتاة البيروتية المسلمة في طريق الانخراط مع الرجال في الحياة الاجتماعية على درجة المساواة المطلقة والتعادل الكامل.

هي ابنة خليل بن عثمان سعادة، أصل عائلته من تونس، وأمه سعدى دبوس، بيروتية عاشت أكثر من مائة سنة، عمل والدها 52 سنة في مستشفى البروسيا (مكان بناية ستاركو اليوم) تسع سنوات في أيام الانتداب الفرنسي، والسنوات السابقة في العهد العثماني، وكان يشغل وظيفة محاسب وكان أميا ً ولكنه يتكلم اللغة الألمانية؛ وعندما جاء غليوم امبراطور ألمانيا الى بيروت سنة 1898م أهداه وساما ً يوم استقبله في المستشفى المذكور كما نال وساما ً آخر بمناسبة احتفال المستشفى بيوبيله الذهبي وذلك تقديرا ً لخدماته فيه.

وأمها: مباركة بنت أحمد بدرشاني، من أصل مصري، والدها عمل ترجمانا ً سياحيا ً، ودرست على شيخ أعمى عادة ذلك الزمان، فحفظت القرآن الكريم غيبا ً وكانت تحسن القراءة وتروي القصائد الصوفية لعمر بن الفارض.

وأخواها الشقيقان: الدكتور عثمان، طبيب تخرج من الجامعة الأميركية، والأستاذ فؤاد مارس التعليم في مدرسة كنيسة اسكتلندا (بيروت) ثم استخدم في مكتب مطبعة الأميركان وكان موقعها غربي ساحة السور.

ولدت سهيلة سعادة في بيروت في أوائل هذا القرن وبدأت علومها الأولى بمدرسة عين المريسة التي كانت في عهدة أليس ادلبي. في هذه المدرسة فكت الحرف وختمت القرآن الكريم ودرست مبادىء اللغتين العربية والتركية وكانت زميلتها في هذه المرحلة احدى رائدات النهضة النسائية في الشرق العربي نازك العابد زوجة المؤرخ محمد جميل بيهم فيما بعد.
ثم انتقلت سهيلة الى مدرسة كنيسة اسكتلندا (بيروت) وبقيت في هذه المدرسة خمسة أعوام تخرجت بعدها حاملة شهادتها النهائية بعد أن أتقنت اللغتين العربية والانكليزية ومبادىء اللغتين العبرية والفرنسية.

المعلمات اللاتي درسن سهيلة في هذه المدرسة هن حنة أبو الروس، وظريفة متى، وبهية دشة، وأستاذها الدكتور مكي؛ من زميلاتها في هذه المدرسة الدكتورة سنية حبوب التي حذت حذو سهيلة ودرست الطب في جامعة أكسفورد والتوليد بولاية أوهايو في أميركة.

ومن مدرسة كنيسة اسكتلندا انتقلت سهيلة الى مدرسة البروسيا حيث مكثت فيها أربع سنوات وتخرجت منها حاملة شهادتها النهائية بعد أن أتقنت جيدا ً اللغات الثلاث الانكليزية والألمانية والفرنسية مع غيرها من العلوم وكذلك فن الرسم. وكانت معلمتاها في اللغة العربية في هذه المدرسة حنة أبو الروس وأمينة الخوري.

دعيت سهيلة للتعليم في بعض المدارس الأهلية ولكنها اعتذرت وفضلت الانصراف الى متابعة دراسة فن التمريض معتمدة على نفسها واستعارت أحد كتب هذا الفن الذي مارسته فعلا ً، في بداية الأمر داخل بيتها، واتصلت خلال ذلك بالسيدة دايل الأميركية، رئيسة مستشفى الجامعة الأميركية آنذاك. واذ كانت سهيلة دون السن التي تخولها دخول الجامعة فان السيدة دايل أجلت قبولها حتى تدرك السن المطلوبة.

ان سهيلة لم يثنها صغر سنها عن الاصرار على دخول الجامعة الأميركية ودراسة الطب فيها. متأثرة بسيرة فلورنس نيتنكايل الممرضة الانكليزية التي كانت كثيرة الاعجاب بها. حتى انها كتبت وهي في المدرسة سيرة هذه الممرضة، وأقبلت سهيلة على دراسة فن الطب والتمريض على نفسها الى أن سمح لها أخيرا ً بدخول الجامعة الأميركية وعملت مع ممرضات مستشفى الجامعة سنة 1917، وبقيت تمارس هذا الفن علميا ً وعمليا ً ثلاثة أعوام حازت بعدها الشهادة النهائية الرسمية سنة 1920م وكانت زميلاتها عندما تخرجت من الجامعة ماري بجاني وزاهية سوسو وابريز حداد وسعاد كنعان.

بعد أن تخرجت سهيلة سعادة من الجامعة عينتها جمعية الصليب الأحمر الأميركية مع زميلتها ماري بجاني ممرضتين لعيادة المرضى في بيوتهم للعناية بهم وتعليم أهليهم مبادىء التمريض المنزلي. كما زاولت سهيلة وزميلتها ماري فن التمريض والعناية الصحية للأطفال في المركز الجمعية المذكور. وفي هذه الأثناء ترجمت كلتاهما رسالة في علم الصحة موجهة الى الأمهات وقامتا بتوزيع هذه الرسالة على الأمهات بدون مقابل.

في سنة 1922 تعينت سهيلة سعادة مديرة لمصح الشبانية (بجوار قرية حمانا بلبنان) حيث بقيت تديره مدة ثلاثة أعوام وفي هذه الأثناء كانت تتردد على العمل في مستشفى الجامعة الأميركية ببيروت.

في صيف سنة 1926م سافرت سهيلة سعادة الى أوروبا وانتسبت الى مستشفى الملكة شارلوت في لندن حيث درست فن التوليد نظريا ً وطبقته عمليا ً لمدة ستة شهور اقتبلت خلالها ثلاثة وتسعين مولودا ً. هذا المستشفى كان من أهم المنتجعات الطبية والصحية في زمانه. كانت سهيلة التلميذة الغريبة الوحيدة فيه. وتخرجت منه بشهادة نهائية برتبة جيد جدا ً، الأمر الذي جعل ادارة الصحة العمومية في لندن تجيز لها ممارسة مهنة التوليد في جميع البلاد البريطانية والمستعمرات التابعة للتاج البريطاني في حينه.
عندما تأثرت صحة سهيلة أثناء وجودها في أوروبا بسبب الاجهاد وبرودة الجو، بادرت بالعودة الى بيروت. وفي طريق العودة مرت بباريس حيث تقلبت في المستشفيات الفرنسية وكان في صحبتها آنذاك السيدة عنبرة سلام، رحمها الله شقيقة الرئيس صائب سلام وزوجة المرحوم الدكتور أحمد سامح الخالدي. أخيرا ً ألقت سهيلة عصا التسيار واستقر بها النوى في موطنها الأم مدينة بيروت حيث أسست عبادة خاصة للتوليد ومعاينة النساء الحوامل، كما مارست التوليد في المنازل ولم تتوقف عن القاء المحاضرات في نادي التعاون (البيروتي) الى أن دعاها الأجل المحتوم الى جوار أكرم الأكرمين. رحمها الله وأجزل ثوابها.