Wadih El Safi: Trinity of voice and melody

مبدعون لبنانيون - وديع الصافي: ثالوث الصوت واللحن ولبنان

لم يخطر في باله وهو يلج باب الاذاعة كي يتقدم الى امتحان الصوت أنه يدخله وديع بشارة فرنسيس وسيخرج منه وديع الصافي.

يومها جاء من نيحا (الشوف) ضيعته التي ولد فيها نهار 1/11/1921 والده رقيب خيال في الدرك والدته شفيقة شديد العجيلي. بدأ دراسته الأولى في مدرسة الضيعة ثم انتقل الى بيروت مع والده في الخدمة فدخل مدرسة المخلص (قرب المتحف) ثم مدرسة اليسوعية غير أنه في جميع تلك الصفوف كان مأخوذا ً بالنغم والايقاع.

اصطحبه والده يوما ً الى قصر المختارة يغني في عرس فلفت السيدة نظيرة جنبلاط وأغدقت على والده عشر ليرات ذهبية هدية منها كي يكمل الفتى دراسته وهو ما حصل لكنه لم يكن مهتما ً للدروس العادية بقدر اهتمامه بالفن والايقاع والتنغيمات وترديد العتابا والميجانا والنقر على طاولة الصف مكان الدربكة أو الدف.

لم يكن والده يشجعه على ذاك المنحى فكان الفتى يدلف سرا ً الى خاله الرقيب في الدرك هو الآخر نمر العجيلي وكان يهوى العزف على العود فاحتضن ابن أخته وقدمه الى سليم الحلو وميشال خياط، الأول أعجب بموهبته فأعطاه دروسا ً مجانية في العزف على العود وأداء الموشحات، والأخير علمه قواعد الغناء.

بقي على هذه الحالة خمس سنوات حتى تمكن من أنامله وصوته وفق القواعد الأكاديمية فأهداه شقيقه البكر توفيق أول عود خاص له كي يتمرن عليه في فترة بلغ معها والده سن التقاعد في مطلع الثلاثينات ولم يعد الشاب قادرا ً على اخفاء ما يضمر فوضع والده أمام الأمر الواقع.

سنة 1942 بدأ الغناء العلني في "مقهى بطرس" على الدورة وكانت تغني صبية في مستهل عمرها الفني: جانيت الفغالي التي تألقت لاحقا ً باسمها واطلالتها: الفنانة صباح.

في تلك الفترة (نحو 1945) علم بأن اذاعة الشرق الأدنى تطلب أصواتا ً جديدة ً فشجعه شقيقه البكر توفيق على التقدم من امتحان الأصوات. وأمام لجنة من يحيى اللبابيدي ومحيي الدين سلام وألبر أديب وقف يغني من الموشحات وبعض العتابا والميجانا ومقاطع من أغنيات محمد عبد الوهاب حتى اذا انتهى الامتحان خرج أعضاء اللجنة للتداول وعادوا بالنتيجة: تصنيفه فئة أولى في الاذاعة.

وحين بدرت منه تحية شكر لينصرف دعاه اليه اللبابيدي وقال له: "اذا شئت أن تمتهن الفن يجب أن تغير اسمك. وديع بشارة فرنسيس ليس اسما ً سهلا ً أو فنيا ً وأنت تتمتع بهذا الصوت الصافي". وبعد برهة واصل قائلا ً: "لماذا لا تكون وديع الصافي"؟

وخرج الشاب يومها من الاذاعة داخلا ً مجتمعه وأسرته وعالمه المقبل بالاسم الجديد: وديع الصافي.

بعد فترة قصيرة أتيح له أن يذهب الى دمشق يتقدم من امتحان أمام لجنة الأصوات فيها ولم يكن أعضاؤها مطلعين على نتيجة امتحانه في اذاعة الشرق الأدنى فاذا بهم بعد امتحانه يخرجون بالنتيجة البيروتية نفسها: تصنيف فئة أولى في الصوت وفي العزف على العود بعدما أتم دوزانه أمام اللجنة التحكيمية.

وديع الصافي ليس صوتا ً غير عادي وحسب، بل هو ملحن مبدع سلخ ألحانه من صميم التراث الفولكلوري اللبناني

من تلك الرحلة خرجت أغنيته "ع اللومة" واشتهرت منذ بثها في اذاعة دمشق. ومن هذه الشهرة الطالعة انتقل الى حلب حيث غنى في صالة سينما مونتانا أمام جمهور ضئيل ما لبث في الليلة التالية أن احتشد له جمهور كان سمع أصداء المعجبين من الليلة الأولى.

لم يطل به الأمر بعد عودته الى بيروت حتى سافر سنة 1946 في جولة من ثلاث سنوات الى نيويورك والبرازيل ترافقه المغنية حنان التي لاحقا ً اعتزلت الغناء.

عاد الى بيروت سنة 1949 وأخذت أغانيه تنتشر: " طل الصباح وزقزق العصفور" "يا غايبين ارجعو" "يا اختي نجوم الليل شوفيها" "ع اللومة"... وتزوج سنة 1953 وهو في عز شهرته التي حملته الى مصر مع نور الهدى وهناك سمعه محمد عبد الوهاب فتنبأ له بمستقبل غير عادي.

بيروت التي كانت تسيطر عليها الأغنية المصرية والبدوية استغرقت وقتا ً غير قليل كي تستوعب التجديد الذي جاء به وديع الصافي بأغنياته من التراث اللبناني الفولكلوري وقصائد أسعد السبعلي وأسعد سابا وسواهما من شعراء الزجل اللبناني العريق. وكذلك فاجأ كثيرين بتوجيهه أغنيات الى المغتربين اللبنانيين ما لم يكن مألوفا ً في تلك الحقبة. غير أن جولاته الفنية الى بلدان الانتشار اللبناني أغنته وأعطته تجربة الغناء الى اللبنانيين البعيدين عن أرضهم الأم واثارة الحنين فيهم للرجوع الى لبنان.

سنة 1957 تأسست مهرجانات بعلبك فكان وديع الصافي أول المشاركين في عمل "أيام الحصاد" للأخوين رحباني مع فيروز تلاه عمل رحباني ثان: "المحكمة" سنة 1959 تجلى فيه وديع الصافي وفيروز وأعمال من زكي ناصيف وفيلمون وهبه فثالث في مسرحية الأخوين رحباني" موسم العز" مع صباح وتوفيق الباشا قائدا ً الأوركسترا.

وقام بمهرجان "نهر الوفا" في نهر الكلب (1964) وهو العمل الأول الذي ظهر فيه اسم جديد في عالم التلحين اللبناني: وليد غلمية.

بعد مهرجان الأرز الذي افتتحه (1966) سافر في في جولة الى أستراليا والولايات المتحدة ليعود في العام التالي (1967) ويفاجأ باستقبال شعبي كبير وواصل نشاطه الحلي في مهرجان بيت الدين (1971) وفي جولات له فنية على مناطق لبنانية عدة كانت تقبل على حفلاته بحماسة شديدة.

ومع اشتداد الحرب في لبنان غادر يزرع صوته اللبناني في بقاع العالم حتى اذا انتهت الحرب عاد ولا يزال في لبنان ركنا ً ثابتا ً من الجذور اللبنانية التي حملها وديع الصافي في صوته وقلبه ووجدانه الفني هو الذي في صوته صخر لبنان وجباله العالية وبحره الهادر وينابيعه العذبة وشمسه الساطعة ولياليه الحالمة بأعذب المواويل.

ووديع الصافي ليس صوتا ً غير عادي وحسب بل هو ملحن مبدع سلخ ألحانه من صميم التراث الفولكلوري اللبناني ومواويله وأنغامه الشعبية الأصيلة.

ويبقى وديع الصافي في تاريخ لبنان الحديث أرزة شامخة لا تطويها الأيام ولا تلويها مفاجآت الدهر.

من أغنياته الشائعة: يا أختي نجوم الليل - كلمات أسعد السبعلي ومن تلحين وديع الصافي

يا أختي نجوم الليل شو فيها سبحان خالقها وباريها
بهالسما قناديل مضوية بتقدري يا اختي تعديها
ومتل النعاج بأرض برية سارحة والرب راعيها
شوفي القمر رفرف على المية وصورته للناس رانيها
وحقولنا بالزهر مكسية ع كتاف ضيعتنا وروابيها
بكرا السفر يا نور عيني خدودك من الهجران حنيها
مالي قلب أكسر قلب بيي ولا ميمتي بوس أياديها
خيي انت غلطان يا خيي كلمة سفر من تمك ارخيها
وطول ع أختك بالك شوية وبهيك نغمة لا تحاكيها
ان رحت بدنا ندوب حنية وقلوبنا تفقد أمانيها
وأمك بذرف الدمع مسمية بالحزن ما بيسوى نكافيها
ولمين بدها تقول يا بنيي خيي وحيدا لا تجافيها
صارت على العكاز محنية عليي أنا بدك تخليها؟

يا أختي ت أصبر ما بقى فيي بلادي بقلبي وروحي بفديها
حنت ع غيري وجارت عليي ومين متلي مجد عاطيها
غنيتها للفكر غنية بأبيات عمتحكي قوافيها
وألحان حبي عطيتها هدية وما قابلت بالمتل هاديها

خيي برضايي عليك يا خيي ورقة فراق بلادك اطويها
وع السفر لا تصمم النية بكرا الدني بتضحك لياليها
وكل غفوه تحت هالفية بتسوى الدنيه وكل ما فيها
وع هالسطيحة كل سهرية هموم الدني عنك بتجليها
وجبالنا لوحة سماوية صورة وطن حلوه معانيها
خليك ع هالبيت شمسية بكرا بتجي ايام عز كتير

كلمة سفر من تمك امحيها