Rachid Ayoub

رشيد أيوب بقلم الدكتور جورج شبلي

إنّ لما يراه الشاعر بخياله صلةً وثيقة بما يلهج به في يقظته، فكأنّ الخيال هو حلم الواقع، والفكر إليه كثير الغزوات، ولو كان أغلبه مناماً. والأهمّ في الخيال هو الغفلة، وهي صنف من ضرب سور بين الصواب والسّراب، أو هي رفع حجاب عن الكَلَف بالسّحر.

رشيد أيوب باهى أفواج الحُجّاج الى الدنيا برفاهية، وقُرب سراج آماله المتماوتة، رأى الناس يلبسون جلود الحملان على قلوب الذئاب، يتوافقون على الطرائد كالعقبان، وقد رثّت حبال القِيم في نزوعاتهم، ويصافحون يدي الشرّ والضرّ، فلم يبقَ ترياق لِسُمّ الأيام. لقد وجد الناس وقّاحي الوجوه، قوارير تصفر في أجوافها ريح الفراغ، وقد ارتبكت الأضداد وأظلم الوقت، وصفعه إخفاق المحصول، فأيقن أنه لا يغنّي بين أنبياء. لقد وعى مسألة الشحّ في الحكمة والحرية، والتكلّف في الودّ، ومقادير الضغائن دون طِيب الصِّلات، فأفسح للناس فناء ظنّه، وما توقّع صفواً بعد كَدَر.

رأى لبنان "نجمة خفاها الضباب" وقد دبّت في دياره عقارب الخراب و" بكاه النّدى"، فيما هو في باله روض ضاحك مستريح الجوانح وقد خلَّب شَطري الدّهر. لقد تغلغل الوطن في مسالك أعصابه، حتى أحدث الشوق إليه صُدوعاً ما لاحمها سوى المناجاة. وهذه لها أطايب تكشف عن الهوى ضباباته، وتمسح عن القلب وصمة الإعياء، كيف لا وقد تحوّل نبض الشاعر الى عشق. لقد رأى الزمان يأذن للنُّوَب بأن تصعق وطنه، وبأن يأكل الشوك ألوانه، وتعصف فيه الشدائد، فطالب الأقربين بأن يهبّوا لنجدته كي يعود إليه السلام ويحقّق استقلاله،" فيتغنّى العمر كيف مشى بربوعه". وكان في عمق ارتباطه بلبنان ان مارس فلسفة الحلول في العلاقة بين الوطن والحبّ فكان شهيدهما.

وازن أيّوب في شعره بين سِكر الحداثة وقرارة ماء الكلاسيك، ومن الصعب أن يجرؤ ناقد على أخذه بإعادة ما سبق إليه الشعراء الأقدمون، لأنه يلجأ الى تشبيهات وصفات لا يُستغنى عنها إلاّ بخلقٍ من اللغة جديد. فالقوالب في شعره، حتى تلك التي تطاولت عليها السّنون، كانت بسيطة نقيّة اللفظ وذات رنّات موسيقية، ولم تكن من المبتذلات المتبلّدة أو الكليشيهات الفاقدة القيمة والإيقاع، بل هي تتوثّب من فيض الحياة في تعبير مبتكَر، وكأنّها عذراء لم يمسسها من قبل شاعر. فهذه الصور الأيّوبيات الأخّاذة والذاخرة بالإحساس، وإن مألوفةً عند الأوّلين في بعضها، العِبرة فيها ليست بالقدوم والحدوث، ولكن بحياتها في نفس قائلها. فمَن ينكر أنّ مقطوعات أيوب، والتي تحمل جودة بيان وإبداعات مجموعة، هي من نوادر الشعر البليغ.

رشيد أيوب ذنْبه أنه مُغرم بالتغريد على أفنان الجمال، يقطف عن خدّ الجمال ورده ولو كان ممتنع القطف، هو العاشق الشاكي الشَّره الحواس، والذي لا يجد بدّاً من الإفصاح عما يُعنّي نفسه من وجد دفين. هذا الدرويش يشكو همّ المغيب، ويبكي ما ذهب من أنسه في الأيام السّوالف، وصلاً لا يُرتجى رجوعه، لكنه يعود فيحييه بالحنين، والحنين مقلة لا تنام. فبعد أن كانت فصول دهره كلّها ربيعاً، أصبح الروح الحزين الذي يُرى من غلالته ذلك الظمأ الى معاهد الألحاظ، وذلك الشوق الى رقّة اللقيا، فبكى، والبكاء ترجمان القلوب، ولكن ما أَضيعَ الدمع المسفوح فوق قلب صريع.

في غربته، لعلّ الرشيد يأنس بديار الأحباب فوق ما يأنس المقيم، ولكن أين أنس المترحّل من نعيم المقيم، وأين روح الذكرى من نشوة الإصطباح بوجوه المِلاح، فيسري عليه القول: إتّسع الخِرق على الرّاقع. إنّ أكثر ما عمّق الأنين في سرور الشاعر " أنّ كلّ الشغل صار للعقل "، أما المشاعر التي قصف منجل الدنيا أزاهرها فلم يعد لها هيبة، وأصبح لونها صباغاً لا دماً ودموعاً. "هي الدنيا" التي لم يأمنها وقد قست عليه، هي دار الشقاء أو رقعةٌ محا سطورها بدمعه، بعدما محت محاسنَها صروف الزمان وقلّبتها يد الأيام، لكنّه مع ذلك، ضمّد جرحه بعزّة نفس وإباء ولو بغلاف من الحزن، حتى قال منتقماً:

خُلِقتُ ولي نَفسٌ تجول لدى العُلى ولو كان فوق الأرض جسميَ ماشِيا